في حديثين سابقين وضعنا معًا تعريفًا لسلطان الله، فهو“اللحن الصادر من سيمفونية طبيعة الله الحكيمة، البارّة والمُحبّة” وفهمنا أكثر عن طبيعته أنه“ليس منع الشر - وإن كان في قدرته فعل ذلك -، ولكن أن يُخرج من الشر خيرًا”.
ومعًا سنقف عند ثلاث دوائر لسلطان الله في خليقته ونرى هل هو مُتحكم أم خرجت عن السيطرة؟!
١-الخليقة المادية
والتي تشمل كل ما هو جماد مثل: بحار، جبال، أرض، سماوات، الشمس... إلخ، وكل ما يتعلق بها من انضباط في إيقاعها، فأكثر من ١٢٠ ثابتًا كونيًا بحسب“هيو روس” عالم الفيزياء الفلكية، من خلالها يضبط الله الحكيم نغمة الكون، فكل دقائق الكون خاضعة له
وللتدليل تأمل معي الطبيعة المادية في سفر يونان كيف تخضع لسيدها «فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ» (يونان٤:١). فالبحر والريح تحت سلطان الله يضبط نغمتهما بما يوافق مقاصده. ففي الأصحاح الأول الريح شديدة لغرض النوء، وفي الأصحاح الرابع الريح شرقية حارة وكانت أيضًا لغرض آخر.
فعلى صفحات الوحي من أولها إلى آخرها تجد كل ما في الكون المادي خاضعًا له ولا يتعدى أمر السلطان
٢-الخليقة البيولوجية
وأقصد بها القوانين التي تحكم الكائنات الحية، وليست الكائنات فحسب، بل الخلايا أيضًا. فأي خلايا تتكاثر هي خاضعة لله ولا تخرج عن الإطار المُحدَّد لها. للتوضيح، ومن ذات السفر أيضًا، نأخذ مثالين لمملكتين مختلفتين؛ الأولى هي النباتية «فَأَعَدَّ الرَّبُّ الإِلهُ يَقْطِينَةً فَارْتَفَعَتْ فَوْقَ يُونَانَ لِتَكُونَ ظِلاُ عَلَى رَأْسِهِ» (يونان٦:٤، ١٠). تأمل معي كيف لنبات أن ينمو في يوم وليلة ليرتفع ويظلل رأس رجل، فمَن له قوانين الانقسام الميتوزي – المسؤول عن تضاعف الخلايا الحية - لتنمو بهذا الشكل؟ أليس هو الله القادر على كل شيء وله كل شيء.
والثانية هي المملكة الحيوانية ونرى كيف لله سلطان على كائن ضخم في قلب البحار وهو الحوت (ص١، ٢)، وكائن صغير في قلب الأرض وهي الدودة (ص٤).
فكيف خضع الحوت لله ثلاث مرات؛ الأولى في بلع يونان، والثانية أن يظل في ظروف محددة تحفظ يونان حيًا، والثالثة أن يقذف يونان من فمه في مكان وتوقيت يحدده الله بعد ثلاثة أيام، وعلى البر. فالحوت يخضع ويأتمر بأمر السلطان.
وكذا الكائنات الصغيرة كالدودة التي أعدها الله عند طلوع الفجر؛ لتضرب اليقطينة في الغد فتيبس وهي أيضًا تحقق مقاصد الله.
أرجو أن تثق وتطمئن من جهة سلطان الله على كل المخلوقات، سواء كانت جماد أو نبات أو حيوان، تُرى بالعين كالدودة أو لا تُرى كفيروس الكورونا؛ فكلها خاضعة ولن تخرج عن سيطرة الله وحتمًا ستعمل دورها حسب قصد الله «فَإِنَّهُ فِيهِ (المسيح) خُلِقَ الْكُلُّ... مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، ... الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كولوسي١٦:١).
٣-الخليقة العاقلة
وأقصد بها كل ما له روح ويفكِّر، هم أيضًا في دائرة سلطان الله. فهذه الفئة من المخلوقات، سواء كانت بشرية أم ملائكية، أعطاها الله إرادة حرة تختار كيفما تشاء، ولكن لكونها مخلوقة فهي محدودة في القدرة. وهذا النوع من المخلوقات لها أن تختار أن تخضع أو تتمرد على الله، وعلى الرغم من ذلك فسلطان الخالق لا يعطله عصيان المخلوق. ومن ذات السفر، لعلك تلاحظ كيف خضعت كل المخلوقات لأمر الرب إلا يونان، فكان كلام الرب له «قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا... فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ» (يونان١:١-٢). وهنا سلطان الله لم يقف عاجزًا أمام عصيانه، فكان القرار السيادي بوضع يونان في ظروف تقوده إلى التوبة دون أن يلغي إرادته. فاستدعى السلطان الطبيعة الغير عاقلة – متمثلة في الريح والحوت - ليتعلم الإنسان العاقل الدرس. وفي نهاية مدة الضيق خضع يونان لأمره وقال «حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ... اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ» (يونان٧:٢-٨). وذهب إلى نينوى وتمت مشيئة الله من جهة المدينة.
ولكن هل أيضًا الخلائق الملائكية في دائرة سلطانه؟ نعم هي في دائرة سلطانه، ولكن مع اختلاف أن الملائكة الأبرار تخضع لأمر الرب بإرادتها فهم «مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ» (مزمور٢٠:١٠٣). ولا تتخذ قرارًا من نفسها مستقلة عن الله «وَأَمَّا مِيخَائِيلُ رَئِيسُ الْمَلاَئِكَةِ، فَلَمَّا خَاصَمَ إِبْلِيسَ مُحَاجًّا عَنْ جَسَدِ مُوسَى، لَمْ يَجْسُرْ أَنْ يُورِدَ حُكْمَ افْتِرَاءٍ، بَلْ قَالَ: لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ!» (يهوذا ٩). فرئيس ملائكة لم يستقل عن الله متخذًا القرار، بل عاد بالحكم إلى الرب.
أما من جهة الملائكة الأشرار، فَهُم غير خاضعين لمشيئة الله بل «تُفْسِدُ سُبُلَ اللهِ الْمُسْتَقِيمَةَ» (أعمال١٠:١٣)، فهي بإرادتها الحرة مُستقلة عن الله، ولكن لا تستطع أن تنفذ أمر دون سماح من الله، فهي بذلك أيضًا تصنع مشيئته ولكن قسرًا وليس خضوعًا.
وللتوضيح أُذكرك بقصة أيوب. ولتلاحظ معي أن الشيطان لم يستطع أن يمس ما يمتلكه أيوب دون تصريح من الرب «وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ... فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ» (أيوب١١:١-١٢). ولا حتى جسد أيوب إلا بتصريح آخر «وَلكِنْ ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ... فَقَالَ الرَّبُّ لِلشَّيْطَانِ: هَا هُوَ فِي يَدِكَ، وَلكِنِ احْفَظْ نَفْسَهُ» (أيوب٥:٢-٦). ففي هذه المرة سمح الرب بِمس الجسد، ولكن معها تكليف آخر بحفظ نفس أيوب! لا تستغرب يا عزيزي فالله السلطان أمر الشيطان بحفظ نفس أيوب.
إذًا الجميع في دائرة سلطانه وتعمل وِفق أجندته. فلا تقلق، بل اطمئن فهو على العرش يُهيمن ويُدير. ولما لا، وهو الله القادر على كل شيء.
ففي النهاية نستطيع أن نُرنم مع بولس «فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ... لاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية٣٨:٨-٣٩).