رأينا في العدد السابق، كيف رأى الله قلب داود، ومِن ثَم اختاره ملكًا، «لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ لِي فِي بَنِيهِ مَلِكًا... وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (١صموئيل١٦: ١، ٧)، أيضًا اختاره ليكون مقياسًا لبقية الملوك الذين أتوا بعده.
ثمانية من ملوك يهوذا كُتبَ عنهم أنهم عملوا المستقيم في عيني الرب. ثلاثة منهم فقط يُذكَر عن كل منهم أنه عمل المستقيم في عيني الرب كداود أبيه، وهم: آسا وحزقيا ويوشيا. إنما الخمسة الباقون، جاء التقرير عن كل واحدٍ منهم أنه عمل المستقيم في عيني الرب، لكن لا تكمل العبارة ”كداود ابيه“، وهم: يهوشافاط ويوآش وأمصيا وعزيا ويوثام. وسنتأمل في حياة كلٍ منهم في الأعداد القادمة بنعمة الله. لكن كما ألقينا نظرة على حياة شاول الملك الذي سبق داود في مُلكه، دعونا نلقي نظرة على الملوك الذين لحقوا داود، وهم ابنه سليمان وحفيده رحبعام وابنه أبيّا، والذين لم يُذكَر عنهم أنهم فعلوا المستقيم في عيني الرب!
«وَاخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ الْغَنَمِ. مِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ، لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَه. فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ، وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ» (مزمور٧٨: ٧٠-٧٢). كان هذا هو وصف الله لُملك داود على شعبه.
وبنهاية حياته، أوصى داود سليمان ابنه: «وَأَنْتَ يَا سُلَيْمَانُ ابْنِي، اعْرِفْ إِلهَ أَبِيكَ وَاعْبُدْهُ بِقَلْبٍ كَامِل وَنَفْسٍ رَاغِبَةٍ، لأَنَّ الرَّبَّ يَفْحَصُ جَمِيعَ الْقُلُوبِ، وَيَفْهَمُ كُلَّ تَصَوُّرَاتِ الأَفْكَارِ» (١أخبار٢٨: ٩).
وبملاحظة التعبيرين: «بِقَلْبٍ كَامِل» و«حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ»، تتضح لنا أول صفة من صفات القلب الذي كان الله يبحث عنه، ووجده في داود. فالقلب الكامل لا بديل عنه لطاعة الله وصُنع كل مشيئته، وخدمة أجيالنا بمشورة الله، كما كُتبَ عن داود بالمفارقة مع شاول الملك.
ثانيًا: بمقارنة حياة داود مع الملك سليمان ابنه
«وَأَحَبَّ سُلَيْمَانُ الرَّبَّ سَائِرًا فِي فَرَائِضِ دَاوُدَ أَبِيهِ» (١ملوك٣: ٣)
«وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَة… مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: «لاَ تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ، لأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ». فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهؤُلاَءِ بِالْمَحَبَّةِ… فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ. فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى لَهُ مَرَّتَيْنِ. وأَوْصَاهُ فِي هذَا الأَمْرِ أَنْ لاَ يَتَّبعَ آلِهَةً أُخْرَى، فَلَمْ يَحْفَظْ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ (وهو السبب الذي أدى إلى عزل شاول عن المُلك: لأَنَّكَ لَمْ تَحْفَظْ مَا أَمَرَكَ بِهِ الرَّبُّ)» (١ملوك١١: ١-١٠).
لقد أحَبَ سليمان الرب، ولكنه أحَبَ معه نساءه الغريبة الكثيرة أيضًا، فانتهى به الأمر بعمل الشر في عيني الرب. كانت هذه هي علَّة سليمان الأولى: ”القلب المنقسم“ أو ”القلب المُجزأ“. «وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ»، فلم يكن لدي سليمان القلب المكتمل whole heart.
لم يطلب سليمان مع المرنم:
وأسعى ألا يوقظك غريب حينما تأتي لقلبي تبيت،
وتأخذ منه عرشًا يطيب فيه لك السكنى أيا حبيب.
لم يكُن قلب سليمان عرشًا مُريحًا لله، بالعكس لقد غضب الله عليه إذ استضاف غرباء كثيرين بقلبه.
لكن يُذكر عنه أيضًا أن: «قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى لَهُ مَرَّتَيْنِ» ومع تكرار التعبير: «قَلْبَهُ مَالَ» ومترادفاته، نستشعر كمّ الحزن الذي كان بقلب الله وهو يتفحَّص قلب سليمان ابن داود!
وفي الحقيقة أنه في المرتين اللتين تراءى الرب فيهما لسليمان، جاء الحديث عن قلب داود المستقيم!
ففي المرة الأولى، سليمان هو مَن قال لله: «إِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَعَ عَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي رَحْمَةً عَظِيمَةً حَسْبَمَا سَارَ أَمَامَكَ بِأَمَانَةٍ وَبِرّ وَاسْتِقَامَةِ قَلْبٍ مَعَكَ» (١ملوك٣: ٦). وفي المرة الثانية، شهد الله نفسه: «وَأَنْتَ إِنْ سَلَكْتَ أَمَامِي كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبٍ وَاسْتِقَامَةٍ» (١ملوك٩: ٤).
والقلب المستقيم هو القلب الذي يسير في طريق مستقيم إذ يضع غرضًا واحدًا نصب عينيه، فلا يذهب يمينًا أو يسارًا. وهو عكس ما كانه سليمان، إذ مَالَ قلبه، فمال معه طريقه. وإذ التصق بهؤلاء بالمحبة، لم يستطع أن يتبع الرب تمامًا، ولم يستطع أن يفعل المستقيم في عيني الرب كداود أبيه، بل عمل الشر في عيني الرب!
أما عن داود، فلقد عرف أنه لا سبيل لاستقامة طريقه إن لم يتوافر له القلب المستقيم والقلب الكامل الموحَّد الغرض. لهذا طلب داود هاتين الطلبتين لأجل قلبه، «لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ» (مزمور ١٤١: ٤).
«أَتَعَقَّلُ فِي طَرِيق كَامِل... أَسْلُكُ فِي كَمَالِ قَلْبِي فِي وَسَطِ بَيْتِي» (مزمور ١٠١: ٢).
«عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ. أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ اسْمِكَ» (مزمور٨٦: ١١).
وهي رغبة قلب الله لنا، ووصيته لكلٍ منَّا: «فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ» (تثنية٦: ٥).
فهل نطلب إلى الله - مع داود - أن يعطينا مثل هذا القلب الكامل غير المنقسم، القلب الذي لا يرضى بالولاءات المتعددة، بل يعلن ولاءه لشخص الرب وحده! وهل نطلب أيضًا القلب المستقيم - موَّحد الغرض - الذي لا يتخذ طرقًا جانبية، ولا يمل يُمنة ولا يسرة!
لا يكن في قلبي شريكًا لك، لك كل قلبي، لك وحدك،
وليُكرَّس قلبي ليُشبع قلبك، فكل شهوتي في مجدك.