ما أجملها رحلة أن تفتش في السيرة الذاتية للمؤثرين في تاريخ البشرية، وتحاول فهم نظرتهم للحياة وطريقة اتخاذ قراراتهم؛ فربما يقودك ذلك إلى الاقتباس من خبراتهم، ولا سيما لو كان التاريخ المُسجَل عنهم صادقًا تستطيع أن تثق فيه ١٠٠٪، مثل ما سجله الكتاب المقدس عن رجال ونساء عاشوا في التاريخ البشري.
واليوم سنقف عند جزء من سيرة رجل الله موسى ونحاول السَفَر في عقله، لعلنا نصل ولو للقليل من منطق تفكيره. فتعال معي نقرأ ما سُجل عنه: «بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِباً عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ بِالإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى» (عبرانيين١١: ٢٤-٢٧).
فأي منطق يقود شخص أن يُفضِّل الذُلَّ على التمتع! وبأي معادلة حسابية يكون العار غنًى أَعْظَمَ! وبأي قوة صنع هذا! ...
أسئلة كثيرة تتتسارع في أذهاننا أمام رجل الله موسى الذي ترك حياة يحلم بها كل جيلنا، حيث الشهرة: فتخيَّل لو كان في يومنا هذا وعنده فيس بوك أو تويتر كم متابع كان سيتبعه؟! ولو عنده حساب بنكي كم ستكون ثروته؟! ورغم ذلك بقرار غريب قرر الخروج من ذلك! فلماذا؟ هل اختلت قواه العقلية، أم أُجبَر على ذلك؟ في الحقيقة لا هذا ولا ذاك، بل هي تنشئة صحيحة علمته أُمه من وقت رضاعته وحتى كبر (خروج٢: ٩-١٠). فلم يَمل قلبه وراء آلهة المصريين الوثنية، بل تثبت من جهة إله أبائه الإله الحقيقي، وأيضًا أن له شعب يعاني تحت ثقل العبودية. فأول إدراك ألاحظه من حياة موسى هو الاقتناع بوجود الله الذي هو مصدر الحياة ومسببها. وكما قال أحدهم: “إن قناعاتك عن الله، من حيث وجوده أو عدمه، سوف تشكل حياتك”. فلو فرضًا قَبَلَ موسى الآلهة الوثنية لما كانت حياة موسى هكذا كما سُجِّلت في الكتاب ولربما لم تُسجَّل من الأساس!
ولكن ليس إدراكه فقط بمصدر الحياة، بل امتد بصره إلى ما أبعد وهو المجازاة في يوم قادم. وبالنظر إلى ما هو أبدي وبضوء المجازاة الأبدية، استنارت حياته الزمنية؛ فرفض التمتع الوقتي بالخطية. ولاحظ معي أن الكتاب لم يذكر عن موسى أي انحدار أخلاقي مثل الحياة المُقترنة بالقصور الملكية، ولكن أن يعيش موسى حياة تمتع لنفسه هذا هو جوهر الخطية. فلاحظ معي في المثل الذي ذكره الرب عن إنسان غني أخصبت كورته (لوقا١٢: ١٦-٢١)، لم يذكر الكتاب شرورًا فعلها، لكنه أشار إلى سلوك الأنانية والعيشة للنفس، فتكررت ياء الملكية في ٥ أعداد قرابة ١١ مرة؛ فكان الوصف الإلهي: يا غبي! لا تستغرب فمن يعيش لذاته هو الغبي، لأن الخطية قد امتلكته، وقد اقتنع أن حياته ليست من الله، بل من أمواله، فأطلق لها عنان التمتع: استريحي وكلي واشربي وافرحي.
عزيزي ما حفظ موسى من أن يتمتع وقتيًا، كما الغبي الغني، هو أنه نظر إلى المجازاة في يوم قادم. فحقًا تفكيرنا في شكل أبديتنا يحدِّد ملامح حياتنا الزمنية. وليس غبيًا من عاش زمنيًا بضوء من الأبدية.
ولكن على ماذا كان سينال موسى مجازاة؟ هل كان لحياته هدف يسعى ليحققه؟ نعم، فمن المنطق أن حياة مصدرها الله ولها مصير قادم أن يكون لها هدف حاضر، وهو ما جاء في حديث استفانوس «أَنَّ اللهَ عَلَى يَدِهِ يُعْطِيهِمْ نَجَاةً» (أعمال٧: ٢٥). لقد فهم موسى أن الغرض من حياته هو نجاة إخوته ويا له من هدف سامي! أن يكون الشخص نافعًا لإخواته ومُقاَمًا من الله لخدمتهم. فحياة بلا هدف تسيطر عليها التفاهة والسطحية والتي صارت تُشكِّل الكثير من أبناء جيلنا مع الأسف.
فلذا من قلبي أرجوك أن تسأل الرب بجدية عن غرض وجودك على الأرض، وتطلب معونة منه أن تحققه؛ فهذا من ناحية يحميك من الحياة التافهة الشبيهة بالموت، ومن الناحية الأخرى ستنال مكافأة ومجازاة في الأبدية وهنا على الأرض سعادة حقيقية تلازم تحقيق غرض الله من وجودك على الأرض.
ولكن لنلاحظ أن من لهم غرض يرجوه، لهم طبيعة حياة توافق الهدف. وهذا المبدأ نراه في حياة موسى؛ فكيف يتحد بحياة القصور وربما يطمح في وراثة عرش مصر وعنده هدف أن يخرج هو وإخوته من مصر؟! هنا كانت الصعوبة هل يختار الهدف الإلهي من حياته والذي له المجازاة أم يتمتع مُتناسيًا إياه؟ فإن اختار الهدف سوف يتنازل عن بنويته لابنه فرعون، وبالتبعية خزائن مصر. يا لها من تضحية كبيرة جعلت منه رمزًا للمُضحي الأعظم في التاريخ وهو ربنا يسوع الذي أخلى نفسه ووضع نفسه (فيلبي٢: ٧-٨) في سبيل أن يُتمّم هدف الله وهو مشروع الفداء. وهذا ما أسماه كاتب العبرانيين: عار المسيح، والذي هو في عين موسى غنى أعظم من خزائن مصر. يا له من حساب صحيح وعميق، أرجوه لنفسي ولك عزيزي القارئ، أن تسعى لهدف الله ومشروعه مُرددًا مع السيد «يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟» (لوقا٢: ٤٩). وإن كلفك ذلك التنازل عن راحة وقتية، هل تكون مثل موسى الذي فضَّل الاتحاد مع الشعب الذليل من العدو على أن يكون في صفوف العدو مُتمتَعًا بمباهج مصر مُتناسيًا غرض الله من حياته. أدعوك أن تقتبس من حسابات موسى وتضع الله وهدفه من حياتك في أولوياتك مهما كانت التضحية.
وقبل أن نخرج من رحلتنا في عقل موسى أدعوك للتأمل في المبدأ الذي استخدمه موسى في تلك الحسابات، وهو الإيمان الذي حتمًا يغيِّر نظرتنا للواقع ويجعلنا نثق في الله إله المجازاة والذي منه، وبالإيمان أيضًا، تأتي المعونة؛ فموسى تشدَّد، كأنه يرى مَنْ لا يُرى.
أخيرًا أترك معك خمسة أسئلة عن حياتك أرجو أن تضع لها إجابة محددة:
١- مَنْ هو أصل حياتك؟ ٢- ما هو مصيرها؟ ٣- ما هو هدفها؟ ٤- هل طريقة حياتك تتفق مع الهدف؟ ٥- من أين تستمد القوة لتحيا هدف الحياة؟