سفر الجامعة هو رابع الأسفار الشعرية المعروفة باسم أسفار الأدب والحكمة، والتي تمثل قلب الكتاب المقدس، ويُرى فيها المؤمن إما متسائلاً (أيوب)، أو ساجدًا (المزامير)، أو سالكًا (الأمثال)، أو متأملاً (الجامعة)، أو مستمتعًا (نشيد الأنشاد).
إن كنا في سفر أيوب نرى أن بر أعظم الأبرار لا يستطيع تبريره أمام الله ففي سفر الجامعة نجد أن حكمة أعظم الحكماء لا تستطيع إيصاله لمعرفة الله.
بالمقابلة مع أسفار موسى الخمسة، فسفر الجامعة يقابل سفر العدد. فإن كان طابع سفر العدد هو “البرية”، فطابع سفر الجامعة هو “تحت الشمس”. وإن كان سفر العدد يبين فشل الإنسان وأمانة الله، فسفر الجامعة يبين خواء العالم وكفاية الله لشبع القلب البشري.
الكاتب هو “الجامعة” ١: ١ والكلمة تعني من يجمع الناس حوله لتعليمهم. والإشارات في السفر كثيرة إلى أن سليمان هو الكاتب.
امتلك سليمان من الحكمة والغنى ما لم يمتلكه إنسان آخر (٢: ١–١١؛ ٢أخبار٩: ٢٢–٢٤؛ ١ملوك١٠: ١٤–٢٩)، جرَب وتلذذ، فكَّر واستنتج وكتب لنا خلاصة تجاربه واستنتاجاته.
من قراءتنا لتاريخ سليمان يُمكننا أن نستنتج أنه كتب هذا السفر في أواخر حياته، حيث زاغ قلبه عن الرب وكانت النتيجة أنه تغيرت نظرته للحياة وامتلأ بالشعور بالخواء؛ فقال عن الحياة إنها: «باطلة» (٦: ١٢)، ووصف أيامه بالقول «أيام بُطْلي» (٧: ١٥)، وقال: «كَرِهْتُ الْحَيَاةَ» (٢: ١٧)، وزادت كآبته إلى الحد الذي جعله يستخلص أنه ليس للإنسان مزية عن البهيمة (٣: ١٩)، وغبَّط الأموات أكثر من الأحياء والذي لم يولد خير منهما (٤: ٢، ٣).
من المهم أن نلاحظ أنه يكتب هنا خلاصة تجاربه وأفكاره وهي ليست بالضرورة أفكار الله من جهة هذه الأمور، فتسجيل هذه الأقوال هو بالوحي الإلهي، لكن ليس هذا هو الإعلان الإلهي أو الفكر الإلهي. لذلك نجد هذا السفر يذكر اسم “الله” أو “إيلوهيم” حوالي ٤٠ مرة ولا يُذكر فيه اسم “الرب” أو “يهوه” لأن الاسم الأول هو اسم الله كالخالق الذي يعرفه غالبية البشر أما اسم “الرب” فهو من نصيب المؤمن الذي له علاقة شخصية بالرب.
الإنسان بالحكمة قد يصل إلى معرفة الله كالخالق فيعرف سبب الحياة، أما معرفة “معنى الحياة” فلا يأتي إلا من معرفته كالرب، وهذا يحتاج إلى إعلان من الله (٢كورنثوس٤: ٦).
هذا السفر هام للشباب بصفة خاصة، وهذا واضح من النصيحة التي يُختم بها السفر فهي موجهة بصفة خاصة للشباب (١١: ٩؛ ١٢: ١٤).
أكثر الكلمات تكرارًا في السفر هي “باطل” ومشتقاتها (حوالي ٤٠ مرة)، و“حكمة” ومشتقاتها (حوالي ٥٠ مرة)، و“تحت الشمس” (٢٩ مرة)، و“رأيت” (٢٢ مرة).
تتكرر عبارة “باطل وقبض الريح” في السفر ٧ مرات، وهي تلخص السفر كله. وكلمة “باطل” تعني “خواء” أما “قبض الريح” فقد تعني “انقباض الروح” أو “ملاحقة الريح”.
تحدث سليمان عن خواء وبُطل كل شيء (١: ٢)، بُطل الحكمة (١: ١٢–١٨) والمقصود بالطبع الحكمة الإنسانية الأرضية، بُطلْ اللذات والممتلكات (٢: ١–١١)، بُطل التعب والعمل (٢: ١٢–١٩)، بُطل التنافس بين الناس (٤:٤)، بُطل الحداثة والشباب (١١: ١٠)... إلخ. وهو لا يقول إن هذه الأمور هي شرور في حد ذاتها، لكنه يكشف خوائها وعدم نفعها في أن تجلب السعادة أو تُعطي القيمة.
قال باسكال: “هناك فراغ في قلب كل إنسان على شكل الله”. وقال أوغسطينوس: “يا الله لقد خلقتنا لذاتك ونفوسنا لا تجد راحتها إلا فيك”. والغرض من سفر الجامعة أن نقتنع بذلك ولا نجرب من جديد ما جربه واكتشف خوائه.
أقسام السفر
يُمكن بسهولة تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من ١: ١ إلى ٤: ١٦ اختبار بطلان الحياة.
القسم الثاني من ٥: ١ إلى ١٢: ٨ نصائح في ضوء هذا الاختبار.
القسم الثالث من ١٢: ٨ إلى ١٢: ١٤ ختام الأمر.
الدرس من سفر الجامعة واضح وهو أن العالم بكل ما فيه، كل ما “تحت الشمس” لا يُمكن أن يُعطي الإنسان الفرح الحقيقي ولا المعنى لوجوده؛ لذا يحرضنا الكتاب صديقي المؤمن: «فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ... اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ» (كولوسي٣: ١، ٢).
لم يستطع سليمان بكل ما كان عنده أن يكتشف معنى الحياة، لكن بولس استطاع أن يقول: «لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ» (فيلبي١: ٢١).
تميزت أواخر حياة سليمان بالكآبة أما بولس فقد كان فرحًا حتى في أصعب الظروف (فيلبي١: ٣، ١٨؛ ٢: ١٨؛ ٤: ١، ١٠).
لم يصل سليمان في كل حكمته للإجابة عن السؤال «أين تذهب روح الإنسان بعد موته؟» (٣: ٢١)، لكن في نور العهد الجديد استطاع بولس أن يقول: «لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا» (فيلبي١: ٢٣).
وفي النهاية، أضع أمامك صديقي التحريض الختامي في السفر الموجه لنا كشباب «فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ» (١٢: ١)، وكأنه يقول إن أكثر فترات العمر التي نحتاج فيها للعلاقة مع الرب هي أيام الشباب.
أيام الشباب هي أيام البحث وإعمال الفكر، تحديد الاتجاهات ورسم المستقبل، الصحة والطموح، نعم إنها أوقات تستحق أن تُستغَل أفضل استغلال. ولنصلِّ ألا نسلك فيها في طرق قلوبنا وبمرأى عيوننا (١١: ٩)، لكن لنكن في طرق الرب كما فعل داود (٢صموئيل٢٢: ٢٢)، ولنعطي الأفضل لمن أعطانا نفسه وأُعطانا معه كل شيء.