مين الغلطان؟


رغم أن هناك قوانين مرورية كثيرة موضوعة ليسير عليها الجميع في الشارع، مثل احترام إشارات المرور (المفروض)، والالتزام بالسير في الحارات (المفروض برضه). لكن لفت نظري قانون يمكنني تسميته بـ “الخسائر على المُخطئ”، والذي يظهر عند أي تصادم أو حادث، فيُحدِّد المحيطون من الذي أخطأ أولاً، ثم يُحمِّلون المُخطئ ثمن ما سبَّبه من خسائر في سيارة الطرف الآخر.

والحقيقة أنه يسهل استخدام هذا القانون المُجتمعي المُتفق عليه في حالات مرورية كثيرة؛ فإذا تصادمت سيارتان من الأمام يكون المُخطئ من سار في الاتجاه المُخالف، وإذا تصادمت سيارتان من الخلف يكون المُخطئ مَن توقف فجأة، أو مَن لم يتدارك استخدام المكابح (الفرامل يعني)، وهكذا.

ولكن يصعب جدًا استخدام ذات القانون في حالات كثيرة؛ أولها إذا كان المُخطئ هو الجهة المُكلَّفة بتنفيذ القانون!! أو إن كان المُخطئ عربة تجرها الحيوانات (فلا يُمكنك أن تُلزم صاحبها البسيط بدفع ثمن الخسائر)، أو إن كان أصحاب السيارات المتنازعة من السيدات، وفي هذه الحالة كلتاهما على صواب!!

وهنا تبادر لذهني عدة ملاحظات روحية، أشاركك - عزيزي القارئ - بمُلخصها.

السؤال الصعب

لاحظت في الآونة الأخيرة أن بعض القضايا التافهة (أو في أفضل الأحوال الشخصية) تطفو على الساحة بشكل غريب، فتصبح هي “الترند”، وتُفرَد لها الساعات في النقاشات في وسائل الإعلام، عن فلان فعل أو فلانة فعلت.

ووقتها يبرز السؤال: من الذي أخطأ؟ هل من ارتكب الفِعل نفسه أم من صوَّره ونشَرَه؟ هل من ارتكب المُخالفة (إن كانت مُخالَفة بالفعل) أم مَن صمت عنها؟

وليس هذا فقط، لكن يبرز نفس السؤال في الكوارث الطبيعية (من الذي أخطأ في كورونا؟ هل دولة خلَّقته، أم إنسان أهمل في اجراءاته؟). أو في الحوادث البشرية (من الذي أخطأ في موت فلان؟ هل خطأ طبي، أم خطأ المريض نفسه؟). أو في الانفصالات الزوجية (من الذي أخطأ لينهدم البيت؟ هل الزوج الذي لم يستوعب، أم الزوجة التي لم تُضَحِّ؟).

والأصعب مما سبق أنه حتى لو علمنا من الذي أخطأ، فإنه لا يتحمل وحده فقط نتائج خطئه، فخسائر كورونا دفعناها جميعًا من فراق أحبابنا، وخسائر الحوادث يدفع ثمنها أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل، وخسائر البيوت المُنهدمة يدفع ثمنها الأطفال والعائلات والمجتمع كله.

الإجابة الأصعب

وفي هذا الإطار فإنني تذكرت إنسان مر عليه المسيح أيام تجسده على الأرض مع تلاميذه، فنقرأ «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ. فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» (يوحنا٩: ١، ٢).

والحقيقة أن كثيرون أخطأوا في حق هذا الأعمى؛ فرغم أن والداه كانا عضوين في المجمع اليهودي، لكنهما تركا ابنهما يستعطي وهو أعمى، وتبرأا منه حتى بعد شفائه خوفًا على مركزهما (يوحنا٩: ٢٠-٢٣)، والمجتمع أيضًا أخطأ في حقه، لأنهم كانوا ينظرون للعُمي والعُرج نظرة صعبة مؤسسة على اعتبارهم منبوذين من داود الملك، وأن لقبهم هو «الْمُبْغَضِينَ مِنْ نَفْسِ دَاوُدَ»، وكانوا ممنوعين من الدخول لحضرته أو الجلوس على مائدته (صموئيل الثاني٥: ٨).

والأعمى نفسه بالتأكيد أخطأ، لأنه ضمن بقية البشر الذي انطبق عليهم القول: «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية٣: ٢٣)، وهكذا لا توجد إجابة نموذجية لسؤال التلاميذ لمُعلمهم: من الذي أخطأ؟

ولهذا رد المسيح على تلاميذه: «لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلا َأَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ» (يوحنا٩: ٣)؛ فالمسيح لم يستذنب الأعمى ولا والديه ولا المجتمع ولا غيره، وبدلاً من أن يعطي تلاميذه تفسيرات لأخطاء الماضي، وجَّه نظرهم لأعمال الله المجيدة في المستقبل.

وهذا ما حدث بالفعل فـ «قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى ... فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيرًا» (يوحنا٩: ٦، ٧). فالمسيح خلق عينين كاملتين لهذا المسكين، وهنا بصر الأعمى أثبت لاهوت المسيح كالخالق. وليس هذا فقط، ولكن لما استدعى الفريسيون الأعمى ليسألوه عما حدث، قال لهم: «مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا» (يوحنا٩: ٣٢، ٣٣)، وهنا بصيرة الأعمى كشفت عدم إيمان اليهود بالمسيح وختمت على شرهم. فيا لها من أغراض مجيدة!!

عزيزي القارئ لا تهتم كثيرًا بمعرفة من الذي أخطأ؟ لأننا، حتى لو عرفناه، فإننا لن نستطيع أن نربط بين خطئه وبين الضرر المباشر الذي حدث لنا، وسندخل في دائرة مُفرغة ستقودنا إما إلى الشعور بالذنب (لو كانت الإجابة هي خطؤنا)، وإما في فخ الشك في سلطان الله وصلاحه (لو كانت الإجابة خطأ غيرنا).

لكن أدعوك لرؤيا الأمر بشكل أشمل، كما يراه المسيح حبيبنا، الذي يستطيع أن يحوِّل أي شر لخير، وأي خطأ لبركة، وهو وحده من أحبنا وتحمل خسائر أخطائنا وأخطاء جميع البشر، وتم فيه القول: «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ» (بطرس الأولى٢: ٢٤).