رأينا في الأعداد السابقة ما امتلكه المؤمن من يقينيات مرتبطة بماضيه وحاضره ومستقبله. وأساس هذه الثقة هو إعلان الله لنا من خلال الكتاب المقدس «شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا» (مزمور١٩: ٧). فالله الذي أحبنا ووهبنا هذه البركات الروحية، أعطانا من خلال كلمته وبالروح القدس الساكن فينا أن نعرف ونعلم ما أعلنه لنا «وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ» (١كورنثوس٢: ١٢). فلا يخفى على أحد أنه يوجد آلاف العقائد الدينية في العالم ولا توجد عقيدة واحدة تستطيع أن تعطي أقل تأكيد من جهة الأبدية ومصير النفس النهائي مثلما يعطيه لنا إيماننا بالرب يسوع، وما أعلنه لنا في الكتاب المقدس الموحى به من الله.
يقينيات الأيام الأخيرة
عن قصد إلهي لم تظهر كتابات الرسول يوحنا إلا في نهاية القرن الأول الميلادي، وبعد أن ظهرت البدع التعليمية والهرطقات الكثيرة في أيام الرسل، والتي منها انتشر الكثير من التعاليم الغريبة التي دخلت في الكنيسة وما زالت حتى الآن. لذا كتب الرسول يوحنا بالروح القدس في رسالته الأولى وبلغة اليقين “نعلم، نعرف” حوالي ٣٠ مرة تشمل كل جوانب حياة المؤمن الحقيقي نذكر بعض منها:
١- معرفة الله: «وَبِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَاهُ: إِنْ حَفِظْنَا وَصَايَاهُ... وَأَمَّا مَنْ حَفِظَ كَلِمَتَهُ، فَحَقًّا فِي هذَا قَدْ تَكَمَّلَتْ مَحَبَّةُ اللهِ. بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا فِيهِ» (١يوحنا٢: ٣-٥). الذي يعرف الله يعرف طبيعته ومطالبيه ويتمِّمها بحفظه لوصاياه التي تقول صراحة افعل هذا ولا تفعل ذلك. أما حفظ الكلمة، فهو أعمّ وأوسع مدى من مجرد حفظ الوصية، فهو أن يفعل المؤمن ومن ذاته كل الأشياء التي ترضي الرب، لا نتيجة وصية أو أمر، بل بدافع المحبة للرب. وهذا هو الامتحان الأول لمعرفة المؤمن للرب وهو الطاعة له.
٢- معرفة ابن الله: «أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي مِنَ الْبَدْءِ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الآبَ» (١يوحنا٢: ١٣، ١٤). في هذه الرسالة يصف الرسول المؤمنين بثلاث صفات: آباء وأحداث وأولاد، بالارتباط بنموهم الروحي. وما يميّز الآباء أنهم عرفوا الرب من بدء تجسده. فالمسيح في لاهوته لا يعرفه أحد تمام المعرفة إلا الآب؛ لذا يحرضنا الكتاب أن ننمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع، وعندما نعرفه ونتأمل فيه من بدء تجسده وفي كل حياته نتغير إلى تلك الصورة عينها وننمو من أولاد، لأحداث، لآباء.
٣- معرفة الساعة الأخيرة: «مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ» (١يوحنا٢: ١٨–٢١). هنا يصف الرسول الحالة وليس التوقيت، والحالة هي وجود أضداد للمسيح. فعبارة «ضد المسيح» تعني الأثيم إنسان الخطية الذي سوف يظهر قبيل ظهور المسيح ليملك على الأرض (٢تسالونيكي٢). والأضداد هم كانوا من أيام يوحنا ويزدادون، وهم المعلمون الكذبة الذين يقدمون إنجيلاً مزورًا. والسؤال: كيف نعرفهم؟ إنه الروح القدس الختم وعربون الميراث فبه نعرف كل شيء (يوحنا١٦: ١٣).
٤- معرفة المحبة: «بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ» (يوحنا٣: ١٦). البغضة هي الشيء الذي يميّز العالم. وإن وجدت محبة فهي نفعية وشهوانية لها أغراضها الخاصة. وربنا يسوع عندما أعلن المحبة لم يقُلها فقط بالكلام واللسان، بل أعطانا مقياسًا لها؛ فقبل أن يعلمنا أن نحب بعضنا بعضًا، بل ونحب أعدائنا، أحبنا ووضع حياته لأجلنا على الصليب. هذه هي المحبة التي عرفناها والتي يجب أن نظهرها كمؤمنين، المحبة التي من الله والقادرة على التضحية والعطاء بصورة لم يعرفها العالم ولا يعلم بها لكنها ظهرت في مثالنا الرب يسوع المسيح.
٥- نعرف أننا فيه وهو فينا: «بِهذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا فِيهِ... وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي ِللهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ» (١يوحنا٢: ٥؛ ٤: ١٦). إن محبة الله لنا هي التي تعطينا هذه الثقة وليست محبتنا نحن. وأي عقل يعرف ويصدِّق ويثق في هذا: أن محبة المسيح لنا أوصلتنا لهذه العلاقة العجيبة، وأن محبته فينا ونحن فيه وهو فينا؟! لقد سبق وكتب يوحنا على فم الرب هذه الأقوال: «فِي ذلِكَ الْيَوْمِ (يوم عطية الروح القدس ليمكث معنا ويكون فينا) تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ» (يوحنا١٤: ٢٠). اتحاد صار لنا مع الرب يسوع، أننا صرنا فيه وهذا هو مقامنا أمام الله، وهو فينا وهذا ما يجب أن يرانا عليه العالم. فالمسيح في المجد الآن وكما يرانا الآب فيه يجب علينا أن نظهره للعالم الذي لا يراه ولا يعرفه، الآن، وذلك من خلال سلوكنا بينهم ومحبتنا لهم.
أكتفي بهذه الأقوال وليتك عزيزي القارئ تتأمل في كل الرسالة لتمتلئ بهذه المعرفة واليقين بما لك من عطايا عظيمة.
عزيزي القارئ: يا من لا تعلم شيء عن معرفة الرب يسوع وعن أبديتك ومصيرك. أعرض لك الآن ما كتبه نفس الرسول في هذه الرسالة عن الذين لا يعلموا ولا يعرفوا وصفاتهم.
١- هم في الظلمة خارجيًا وداخليًا لأن إله هذا الدهر قد أعمى أذهانهم «وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِي الظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ الظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ» (١يوحنا٢: ١١).
٢– هم من العالم ولا يعرفون الله ولا أولاد الله «اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ! مِنْ أَجْلِ هذَا لاَ يَعْرِفُنَا الْعَالَمُ، لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ» (١يوحنا٣: ١). عندما أعلن الله ذاته للعالم من خلال الخليقة لم يستحسنوا أن يبقوه في معرفتهم (رومية١: ٢٨). وعندما كان الرب يسوع في العالم بالجسد لم يعرفه العالم، فشرف لنا ألا يعرفنا.
فليتك تعرف الرب مخلصك وفاديك فينير لك بواسطة الانجيل الحياة والخلود.