وصلنا في تأملاتنا إلى الملك يهوشافاط، أول الملوك الخمسة الذين عملوا المستقيم في عيني الله، ولكنهم لم يصلوا لمقياس الله “كداود أبيهم”، ونستكمل حديثنا عن حياة ملك جديد.
خامسًا: بمقارنة مع يوآش الملك (اقرأ ٢أخبار٢٤)
«وَأَمَّا بَنُوهُ وَكَثْرَةُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ وَمَرَمَّةُ بَيْتِ ٱللهِ، هَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ» (٢أخبار٢٤: ٢٧)، جاء هذا التقرير الختامي لحياة الملك يوآش كملخّص لأولويات حياته وإنجازاته التي تميّز بها عن غيره من الملوك.
فأولاً، بَنُوهُ، ولاحظ دقة الوحي في ترتيب اهتمام يوآش ببنيه قبل أعبائه وبيت الله. وبالفعل إذا تتبعنا خط سير بنيه وأحفاده لثلاثة أجيال متعاقبة، سنجد العبارة: «وَعَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ»، مُسجَّلة عن ابنه أمصيا، وحفيده عزيّا، وابن حفيده يوثام - وإن كانوا لم يصلوا جميعًا لمقياس الله - وهو ما سنتأمله في الحلقات القادمة بنعمة الله.
ثانيًا، كَثْرَةُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ أو كما في ترجمة داربي “كثرة الأعباء التي حُملت عليه (وفي ترجمات أخرى: كثرة الكلمات التي قيلت ضده)”. وبالرغم من صغر سنه وكثرة ما حُمِلَ عليه، إلا أن هذه الأعباء لم تُنسِهِ اهتمامه ببنيه، ولم تثنهِ عن دوره تجاه بيت الله.
ثالثًا، لقد كانت “مَرَمَّةُ (ترميم) بَيْتِ اللهِ” هي شغل الملك يوآش الشاغل.
«وَحَدَثَ بَعْدَ ذلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِ يُوآشَ أَنْ يُجَدِّدَ بَيْتَ الرَّبِّ». هذا البيت الذي عرفه جيدًا في طفولته، بكل شق في مخادعه، وكل ثغرة في حوائطه، وكل مهدوم في جدرانه بعد أن هدمه بنو عثليا الخبيثة وصيرّوا كل أقداسه للبعليم. فلقد تربى يوآش منذ طفولته في بيت الرب، وذلك عندما سرقته يهوشبع عمته، زوجة يهوياداع الكاهن، وخبَّأته من وجه عثليا التي قامت وأبادت جميع النسل الملكي. فكان هذا الكاهن وزوجته أصحابَ فضلٍ كبيرٍ عليه، لا فقط بإنقاذ حياته، بل بتربيته وتعليمه وسط أولادهما وقت أن كان عمره سنة واحدة حتى صار عمره سبع سنوات عندما قام يهوياداع الكاهن بإعلانه ملكًا.
وإن كانت هناك نقاطًا مضيئة في حياة الملك يوآش، إلا أن هناك خللًا ربما بدا صغيرًا في البداية، لكنه أدى لانحراف خطير، إذ يُذكَر أنه: «وَعَمِلَ يُوآشُ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنِ».
لقد عمل يوآش المستقيم لكن ليس كل أيام حياته - بل كل أيام يهوياداع الكاهن - لذا لم يصل لمستوى داود أبيه الذي عمل المستقيم في عيني الرب كل أيام حياته. ولهذا يأتينا التحذير: «انْظُرُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ نُضَيِّعَ مَا عَمِلْنَاهُ، بَلْ نَنَالَ أَجْرًا تَامًّا» (٢يوحنا٨). مع بداية حياته المشرقة لا نتوقع أبدًا كيف انحدر يوآش بمجرد اختفاء الأب والمرشد والمعلم والقائد يهوياداع، «وَبَعْدَ مَوْتِ يَهُويَادَاعَ جَاءَ رُؤَسَاءُ يَهُوذَا وَسَجَدُوا لِلْمَلِكِ. حِينَئِذٍ سَمِعَ الْمَلِكُ لَهُمْ (أي وافقهم وذهب في طريقهم)، وَتَرَكُوا بَيْتَ الرَّبِّ إِلهِ آبَائِهِمْ (بعد أن رُمّم وأُقيم على رسمه وتثَّبَت) وَعَبَدُوا السَّوَارِيَ وَالأَصْنَامَ، فَكَانَ غَضَبٌ عَلَى يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ لأَجْلِ إِثْمِهِمْ هذَا».
فلماذا يا ترى سمع يوآش لرؤساء يهوذا؟
هل هددّوه بأنه صغير السن، وسينكشف ضعفه بعد موت يهوياداع، فالأجدر به أن يسمع لهم. أم تملّقوه وهم يسجدون له وأقنعوه بأنه لا حاجة له إلا بأن يخرج من جلباب الكاهن العجوز وينطلق من تحت عباءته! على أيّة حال، فلقد تسبَّب انحرافه - هو ومَن أحاط نفسه بهم - في استلامهم لنفس الرسالة التي جاءت لرحبعام - الذي ذهب وراء مشورة الأحداث - «لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمُ الرَّبَّ قَدْ تَرَكَكُم».
فهل استفاق يوآش؟ كلا! بل تمادى في حماقته، وحدث ما لم يكن يتخيله أحد!
«وَلَبِسَ رُوحُ اللهِ زَكَرِيَّا بْنَ يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنَ (ابن عمته التي هي وزوجها أنقذا حياته وربيّاه وأوصلاه للمُلك) فَوَقَفَ فَوْقَ الشَّعْبِ وَقَالَ لَهُمْ: هكَذَا يَقُولُ اللهُ: لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصَايَا الرَّبِّ فَلاَ تُفْلِحُونَ؟ لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمُ الرَّبَّ قَدْ تَرَكَكُمْ»، فماذا كان من الملك يوآش؟! «فَفَتَنُوا عَلَيْهِ وَرَجَمُوهُ بِحِجَارَةٍ بِأَمْرِ الْمَلِكِ فِي دَارِ بَيْتِ الرَّبِّ».
لقد فتنوا عليه - بأمر من الملك يوآش نفسه - ورجموه بالحجارة، وكأنه نبيًا كاذبًا، بينما كانوا هم الأولى بالرجم إذ تحوَّلوا عن عبادة الرب لآخر (تثنية١٣: ١-١١)! «وَلَمْ يَذْكُرْ يُوآشُ الْمَلِكُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي عَمِلَهُ يَهُويَادَاعُ أَبُوهُ مَعَهُ، بَلْ قَتَلَ ابْنَهُ».
بل لقد نسي يوآش حتى ما فعله يهوياداع عندما أعطى الأوامر بقتل عثليا الشريرة، بألا تُقتَل داخل بيت الرب، فقتل ابنه بين الهيكل والمذبح في دار بيت الرب (متى٢٣: ٣٥)!
وتحققت سريعًا كلمات زكريا، إذ عِنْدَ مَوْتِهِ قَالَ: «الرَّبُّ يَنْظُرُ وَيُطَالِبُ»؛ وَفِي مَدَارِ السَّنَةِ صَعِدَ عَلَيْهِ جَيْشُ أَرَامَ وَأَتَوْا إِلَى يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ وَأَهْلَكُوا كُلَّ رُؤَسَاءِ الشَّعْبِ (الذين قادوا الملك والشعب للانحراف عن الرب). «لأَنَّ جَيْشَ أَرَامَ جَاءَ بِشِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ، وَدَفَعَ الرَّبُّ لِيَدِهِمْ جَيْشًا كَثِيرًا جِدًّا لأَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّبَّ إِلهَ آبَائِهِمْ. فَأَجْرَوْا قَضَاءً عَلَى يُوآش». فهل تواضع يوآش وطلب إلهه؟ كلا، بل أخذ كل مقدسات بيت الرب وأعطاها لحزائيل ملك آرام. ولا نعرف لماذا لم يطلب يوآش الرب بدلًا من هذا الاستسلام المُهين!
هكذا أضاع يوآش حياته بين الولاءات المتعددة. فلم يكن له القلب الذي يعلن ولاءه لله وحده. فطالما كان يهوياداع الكاهن أمام عينيه، عمل المستقيم في عيني الرب، وبمجرد غيابه، تحوّل ولاءه لرؤساء يهوذا فانحرف وانجرف بعيدًا جدًا عما كانه في البداية.
تذكّر أن انحدار يهوشافاط حدث بسبب اتباعه للملك الشرير آخاب، وكانت غلطة يوآش في اتباعه للكاهن التقي يهوياداع لا الرب نفسه؛ وهي مأساة كل من يضع عينه على الإنسان ويسير في تبعية للبشر أشرارًا كانوا أم أتقياء.
والنهاية: «وَعِنْدَ ذَهَابِهِمْ عَنْهُ، لأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ بِأَمْرَاضٍ كَثِيرَةٍ، فَتَنَ عَلَيْهِ عَبِيدُهُ (تماما كما فتنوا علي زكريا بأمرٍ منه) مِنْ أَجْلِ دِمَاءِ بَنِي يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنِ. وَقَتَلُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ فَمَاتَ. فَدَفَنُوهُ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ، وَلَمْ يَدْفِنُوهُ فِي قُبُورِ الْمُلُوكِ».
وبالتأكيد يختلف أسلوب الحياة هذا تمامًا عن أسلوب حياة داود الذي لم يكن قلبه يرضى بديلًا عن الرب وحضوره وابتسامة رضاه والسكنى في بيته، فكتب بالروح: «جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ» (مزمور١٦: ٨).
(يُتبَع)