نستكمل، صديقي العزيز، رحلتنا في أسفار الكتاب المقدس، وكنا قد انتهينا من “الأسفار الشعرية”، وفي هذا العدد نبدأ في جولة سريعة في الأسفار النبوية في العهد القديم.
من بين ٣٩ سفرًا، يوجد ١٧ سفرًا نبويًا في العهد القديم أي أكثر من ٤٠٪ منه. يُقدِّر بعض الدارسين عدد النبوات في الكتاب المقدس بأكثر من ١٠ آلاف نبوة وتمثل في مجموعها حوالي ثلث الكتاب؛ لذا فإن واحد من أسماء الكتاب المقدس هو «الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ» (٢بطرس١: ١٩).
من المهم أن نعرف في البداية ما معنى كلمة “نبوة”؟
الكلمة تأتي في الكتاب بمعنيين، الأول وهو الأكثر شيوعًا: “الإخبار بشيء سيحدث في المستقبل”، مثل نبوة إشعياء عن ميلاد المسيا من عذراء (إشعياء٧: ١٤) وقد تحققت في المسيح (متى١: ٢٢، ٢٣). أو نبوات نشاهد نحن تحقيقها الآن، مثل نبوات الكتاب عن طابع الأيام الأخيرة (٢تيموثاوس٣: ١-٩). أو نبوات لم تتحقق بعد، مثل النبوات الخاصة بمجيء المسيح الثاني (١تسالونيكي ٤: ١٣-١٨؛ متى٢٤).
المعنى الثاني، وهو الأقل شيوعاً، هو “الإخبار برسالة من الله تكشف حالة قلب الإنسان” (راجع: رومية١٢: ٦؛ ١كورنثوس١٤: ١، ٣).
أي أن كلمة “نبوة” في الكتاب إما أن تأتي بمعنى “كشف المستقبل” أو “كشف القلب”، وكلا الأمرين لا يقدر عليه سوى الله، كُلي العلم.
لا أحد يعرف المستقبل سوى الله، ليس فقط يعرفه، بل أيضاً يصنعه (إشعياء٤١: ٢١-٢٤؛ ٤٦: ٩-١٠) وأيضاً: «اَلْقَلْبُ... مَنْ يَعْرِفُهُ؟» (إرميا١٧: ٩). لذا فإن كلمة الله حية وفعالة وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته (عبرانيين٤: ١٢).
من المهم أن نلاحظ أنه ليس الهدف الأساسي من إعطاء النبوات في الكتاب هو إشباع فضول الإنسان لمعرفة ما سيحدث في المستقبل، لكن النبوة لها أهداف أخرى؛ منها التأكيد على وحي الكتاب المقدس. النبوة أيضاً ترينا صفات الله، مثل سلطانه وحكمته وعدله، بشكل مُذهل. النبوة كذلك تعلن فكر الله من جهة المسيح ومن جهة شعبه وجميع الناس، الله يُسر بذلك (تكوين١٨: ١٧) لأن «سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ» (مزمور٢٥: ١٤) ليظهر لهم محبته وليشجعهم ذلك على حياة القداسة والغربة (١يوحنا٣: ٣).
قبل أن نبدأ جولتنا في الأسفار النبوية للعهد القديم، من إشعياء إلى ملاخي، أشاركك بملاحظتين هامتين.
الملاحظة الأولى عن أقسام هذه الأسفار، هذه الـ١٧ سفرًا تنقسم لمجموعتين كبيرتين، المجموعة الأولى تُسمى “الأنبياء الكبار” وهي إشعياء وإرميا (ويُضاف له مراثي إرميا) وحزقيال ودانيال والمجموعة الثانية تُسمى “الأنبياء الصغار” وتشمل الـ١٢ سفرًا من هوشع إلى ملاخي.
السبب في هذه التسمية، “كبار” و“صغار”، هو مدى النبوة. تنبأ الأنبياء الكبار عن شعوب مختلفة والنطاق الزمني لنبواتهم متسع يمتد لمئات وأحياناً آلاف السنين.
الملاحظة الثانية وهي أنه هناك بعض القواعد الهامة لفهم نبوات الكتاب المقدس. منها، القاعدة الأولى: هي الإتمام الحرفي للنبوات. بدراسة ما تم من نبوات الكتاب نرى أنها تمت حرفيًا وعلى سبيل المثال لا الحصر، النبوات الخاصة بالمسيح وهي تملأ العهد القديم ويُقَّدِر البعض النبوات التي تمت في حياة المسيح وموته ثم قيامته وصعوده بأكثر من ٣٠٠ نبوة وكلها تمت بدقة (مثل ميخا٥: ٢؛ هوشع١١: ١؛ إشعياء٥٣؛ زكريا٩: ٩؛ مزمور٢٢: ١٦؛ مزمور١٦: ١٠، ١١).
كذلك النبوات الخاصة بأبناء نوح الثلاثة الذين تفرقت منهم شعوب الأرض بعد الطوفان (تكوين٩: ٢٥-٢٧؛ تكوين١٠). والنبوات الخاصة بشعب إسرائيل في ماضيه وحاضره الآن، نبوات السبي لأشور وبابل وعودة السبطين، يهوذا وبنيامين وتشتت باقي الأسباط العشرة.
يحوي كذلك سفر دانيآل نبوة مذهلة عن الإمبراطوريات التي ستتعاقب في السيادة (دانيآل٢؛ ٧) وتم ذلك في تعاقب إمبراطوريات بابل ومادي، وفارس، واليونان، والرومان. أيضاً النبوات الخاصة بشعوب الأرض مثل مصر وآشور والكلدانيين وأدوم وموآب وغيرهم، تمت كما تنبأ الأنبياء. هناك كذلك نبوات عن مدن عظيمة مثل صور وصيدون (حزقيال٢٦–٢٨) ونينوى عاصمة مملكة آشور (سفر ناحوم). هذا كله ما تم في الماضي، وهو يجعلنا نقول إنه كما تمت نبوات الماضي بطريقة حرفية كما قال الكتاب تمامًا، فإن النبوات التي تنتظر الإتمام المستقبلي ستتمم أيضاً بنفس الطريقة.
لا شك أنه هناك معاني روحية ودروس عملية كثيرة في النبوات لكن هذا لا يغير طبيعة النبوة من حيث كونها أمر مستقبلي أراد الله أن يخبرنا به وتم أو سيتم كما قاله الله.
القاعدة الثانية وهي قاعدة الإتمام المزدوج، والمقصود بها أن جزء من النبوة يتم في وقتٍ ما والجزء الثاني يتم في وقت لاحق، مثل إشعياء٦١: ١، ٢ حيث تم الجزء الأول حتى كلمة «بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ» في مجيء المسيح الأول، أما الجزء الثاني «... وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا.» سيتم في مجيء المسيح الثاني، لذا قرأ الرب يسوع في مجيئه الأول عندما كان في مجمع الناصرة حتى كلمة «بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ» (لوقا٤: ١٧-٢٠).
أو أحياناً يكون هناك إتمام قريب جزئي وإتمام بعيد كُلي مثل النبوة عن انسكاب الروح القدس (يوئيل٢: ٢٨-٣٢) التي تمت جزئياً في يوم الخمسين (أعمال٢) وستتمم كلياً في زمن مُلك المسيح المستقبلي (إشعياء٤٤: ٣).
القاعدة الثالثة هي ضرورة التمييز بين إسرائيل والكنيسة، الشعب الأرضي والشعب السماوي، العروس الأرضية والعروس السماوية. الكنيسة “سر” لم يكن معلنًا في العهد القديم (أفسس٣)؛ لذا فلا توجد نبوات عن الكنيسة في العهد القديم على الرغم من وجود صور لها. العهد القديم موضوعه الرئيسي هو معاملات الله مع شعبه الأرضي في الماضي والحاضر والمستقبل. هذا لا يعني أننا لا نجد ما يلزمنا في نبوات العهد القديم، لأنه كل الكتاب لنا وإن كان ليس كله عنا!
أرجو أن تساعدك هذة الأفكار في رحلتك الشخصية وأنت تقرأ نبوات العهد القديم، أعرف أن هناك أجزاء صعبة فيها، أشجعك أن تقرأها واجتهد في فهمها وانتظر رسالة شخصية لك فيها، نعم لأن كل الكتاب نافع (٢تيموثاوس٣: ١٦).