من أهم الأمور اللازم تواجدها على الطرق هي اللوحات الاسترشادية، والتي يجب أن يُراعَى فيها مكانها الصحيح وكذلك وضوحها المباشر. فتجد لوحة تُنبهك بمنحنى قبل أن تنحنيه، أو لوحة تشير لك بمكان مطب صناعي قبل (وليس بعد) أن تصطدم به، أو لوحة تشير إليك بمدخل طريق أو محور جديد (وما أكثرهم وأفيدهم)، ويا حبذا لو راعوا كذلك الدقة اللغوية على اللوحات، وخاصة وضع الهمزات بشكل صحيح (أو إلغائها تمامًا).
ولكن ما لفت نظري في إحدى مرات السفر، أنني وجدت لوحة متكررة معنونة بـ“افحص سيارتك قبل السفر”، وهي بالتأكيد نصيحة مهمة جدًا، توصي السائق بأن يتأكد من جاهزية سيارته؛ سواء زيت السيارة، أو ضبط الإطارات أو أي أمور أخرى، وخاصةً قبل السفر لمسافات طويلة. وهنا جال بمخيلتي درسان هامان عن مكنون هذه اللوحة وأهميتها.
توقيت الفحص
أول درس فكرت فيه، أن هذه اللوحة تظهر أثناء رحلة السفر، وتنصح قائد السيارة بأن يفحص سيارته قبل السفر!! وهو ترتيب معكوس، لأن الفحص الأساسي يجب أن يسبق السير، بل إن كثير من خبراء السيارات ينصحون بألا تتم أي صيانة في السيارة قبل السفر بيوم أو يومين، ولكن تُفحص قبلها بوقت كافٍ، لتجنُّب ظهور أي مشاكل طارئة وُجدت نتيجة الفحص.
وهنا تذكرت كثيرين، من يسيرون في طريق أبديتهم، وهم يظنون أنفسهم مؤمنين، ويقيسون أنفسهم إما على الناس، أو على مستوى أخلاقي معين، أو على انتسابهم لعائلة أو لمجموعة فاضلة. ولذا تجدهم يتجاهلون حضور أي فرص تبشيرية، ولا يقرأون المقالات الافتتاحية الكرازية، فهذه الأمور لا تخصهم، وقد عفا الزمن عن فحص حقيقية إيمانهم.
وأنا هنا لا أشكك في إيمان الخلاص بالمسيح لأي إنسان؛ فهذا الدور يقوم به إبليس بامتياز، لكني أدعو نفسي وغيري، أن نكون متأكدين من حقيقة إيماننا ومصيرنا الأبدي؛ فهذه الأمور لا فصال فيها.
ولعلنا نتعلم ممن قال له الرب: «أنا عارف أعمالك أنَّكَ لَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا! هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ... لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ» (رؤيا٣: ١٥-١٧)، فهذا الشخص بلا تصنيف حاسم ولا طابع مميز؛ فهو ليس فاجرًا في الشر (باردًا)، ولا هو في علاقة شخصية مع الله (حارًا)، لكن ربما يكون في علاقة مع أمور الله؛ سواء كانت كتب أو مؤتمرات أو حتى خدام.
ورغم هذه الحالة المُرَّة، إلا أن الله كان لديه علاج شامل لها، فاستطرد قائلاً: «أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْل لِكَيْ تُبْصِرَ» (رؤيا٣: ١٨)، والذهب المُصفَّى بالنار، في أحد معانيه، هو إشارة للإيمان الحقيقي المُمتحَن بالنار.
وكأن الرب يقول لهذا اللاودوكي الفاتر: إن كنت حائرًا في توصيف حالتك، ولا تعرف أن كنت مؤمنًا حقيقيًا أم مزيفًا، فالحل يبدأ بأن تفحص حقيقة إيمانك من جديد، بنار من الرب.
نوع الفحص
ولكن كيف يتم هذا الفحص؟
هنا نأتي للدرس الثاني لنا، بحسب النور البسيط الواصل لي، فالنار في طول الكتاب وعرضه رمز لقداسة وبر الله، ولذا على أي إنسان أن يمتحن حقيقة إيمانه في نور هذه القداسة.
وهذا ما يوضحه الرسول يوحنا، وهو يكتب رسالته الأولى، فمن ضمن العلامات الكثيرة التي يوردها لفرز المؤمن الحقيقي من المزيف، فإنه يقول: «اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ. وَلكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (١يوحنا١: ٥-٧). فلأن أي علاقة بين طرفين يجب أن تقوم على أرضية مشتركة بينهما، سواء كانت دراسة أو زواج أو جيرة؛ فإن أرضية علاقة المؤمن الحقيقي مع الله هي طبيعته القدوسة لأن «الله نور». لذا فالعلامة الأكيدة للمؤمن الحقيقي هي كراهيته للخطية من الداخل (ولو سقط فيها كداود)، وتأففه منها في الخارج (ولو عُذِّب منها كلوط).
أما المؤمن المزيف فهو يدَّعي كُره الخطية فقط أمام الناس، ويُعلن ذلك صراحةً بأكثر من وسيلة. ولكن عندما تختفي الرقابة عنه، تنفجر شهوته بلا رادع، ويقضي الساعات في متعته المُحرَّمة. وليس شرطًا أن يمارس خطية حسية أو جنسية، لكنه يمارس خطايا الإدانة والكبرياء والتصلف، ليزيد من منسوب بره المزيف.
عزيزي، مهما زادت مسؤولياتنا، أو حسنت نظرة الناس عنا، فلن يعيبنا أبدًا فحص حقيقة إيماننا، وأقصد به إيمان الخلاص، فإن كان إيمانًا حقيقيًا سيزيد من منسوب الشكر والإحساس بالنعمة المتفاضلة من الله، وإن كان مزيفًا سنطلبه منه لأنه في الأصل عطية الله (أفسس٢: ٨)، ونحن رابحون في كلتا الحالتين، وإلا سنُخطئ خطأ السائق الذي لم يفحص سيارته قبل الطريق، وسيكتشف حينها أنه لا استدراك له أو عودة منه.