ابن امرأة زانية، مطرود من إخوته، منبوذ من المجتمع.
يا ترى إيه هو شكل الحياة وطبيعة الشعور، اللي بيحس بيه حد اتولد في الظروف دي. مؤكد إن الشعور بالدونية وانعدام القيمة، في نظر الناس كان هو السائد على الحياة.
ومؤكد إن تصرفات الناس معاه الناتجة عن كونه ابن امرأة زانية، كان ليها دور في تعميق الجراح وزيادة التأكيد على الدونية وعدم الاستحقاق.
دي كانت حياة يفتاح الجلعادي، اللي نتيجة رفض إخواته ونبذ المجتمع له: «هَرَبَ يَفْتَاحُ مِنْ وَجْهِ إِخْوَتِهِ وَأَقَامَ فِي أَرْضِ طُوبٍ. فَاجْتَمَعَ إِلَى يَفْتَاحَ رِجَالٌ بَطَّالُونَ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَهُ»
(قضاة١١: ٣
).
الاحتياج اللي بيتولد جوه شخص عايش الظروف دي، هو الرغبة في الانتماء لمجموعة تكون بتقبله وبتدخله وسطها. أيًا كان مين هم أفراد المجموعة دي وأيًا كانت التنازلات اللي محتاج يقدِّمها. وعشان كدة ملقاش يفتاح غير الرجال البطالين، عشان يخرج معاهم ويلاقي نفسه وسطهم.
لكن في ظل الظروف اللي بيعيشها الشعب في الوقت ده، كان يفتاح الجلعادي هو الاختيار الأنسب واقعيًا ومنطقيًا للخلاص؛ لأنه كان رجل جبار بأس وقوي، وده كان بالأولى بترتيب واختيار من ربنا، اللي إداله التأييد والمعونة والنصرة.
الشعب كان في احتياج للانتصار والخلاص، فلجأوا ليفتاح وطلبوا منه إنه يحارب بني عمون معاهم «وَقَالُوا لِيَفْتَاحَ: تَعَالَ وَكُنْ لَنَا قَائِدًا فَنُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ»
(قضاة١١: ٦
).
لكن بعد رفضه لطلبهم، بسبب إهاناتهم له وطرده من وسطهم في الماضي، لقوا نفسهم مُضطرين يقدموا له تنازل أكبر ووعود أكتر عشان يقنعوه، فوعدوه بإنه يكون ملك عليهم لو انتصر «فَقَالَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَفْتَاحَ: لِذلِكَ قَدْ رَجَعْنَا الآنَ إِلَيْكَ لِتَذْهَبَ مَعَنَا وَتُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ، وَتَكُونَ لَنَا رَأْسًا لِكُلِّ سُكَّانِ جِلْعَادَ»
(قضاة١١: ٨
).
كتير جدًا وإحنا في قلب أوجاعنا وضيقنا، بنحس بضرورة تقديم وعود أو تنازلات علشان نقدر ناخد الطلب اللي بنتمناه. لكن في أوقات كتير بندفع تمن الوعود المتسرعة والتنازلات المتهورة، اللي بنقوم بيها في لحظات الانفعال.
مش بس الشعب قدَّم وعود لشعوره بالاحتياج الشديد للخلاص، لكن الأعجب من كده هو تقديم يفتاح الجلعادي نفسه وعد لربنا ونذر للرب، نتيجة شعوره هو كمان بالاحتياج الشديد للشعور بالقيمة والنصرة، بسبب ظروف حياته اللي حكمت عليه يعيش وضيع ومهزوم نفسيًا.
وفي لحظات التسرع والاحتياج لقى نفسه بيوعد ربنا
(أو بيقدِّم نذر
)، إنه لو انتصر في الحرب فأول من يخرج من بيته لما يرجع من الحرب هيقدمه ذبيحة: «وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْرًا لِلرَّبِّ قَائِلاً: إِنْ دَفَعْتَ بَنِي عَمُّونَ لِيَدِي، فَالْخَارِجُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي عِنْدَ رُجُوعِي بِالسَّلاَمَةِ مِنْ عِنْدِ بَنِي عَمُّونَ يَكُونُ لِلرَّبِّ، وَأُصْعِدُهُ مُحْرَقَةً»
(قضاة١١: ٣٠، ٣١
).
ولو سألنا نفسنا: مين أجبره يعمل النذر ده؟ هنلاقي إن في الحقيقة محدش أجبره، نقدر نفهم الوعد بتاع الشعب ليفتاح إنهم ينصّبوه ملك، لأنهم محتاجينه يوافق على الخروج للحرب، كونه رجل قوي وبارع في الحرب، وعشان يوافق مُضطرين يقدموا له عرض جذاب. لكن إيه اللي دفع يفتاح إنه يقدِّم النذر المتسرع ده؟ اللي دفعه لتقديم النذر هو شعوره العميق بالاحتياج للانتصار عشان يخرج من دايرة المحتقَرين لدايرة المستحقين، وعشان شعوره بالدونية كان مسيطر عليه، وكان على استعداد يقدِّم أي وعد أو تنازل باستماته عشان ينتصر ويحقق المُلك.
لكنه للآسف وقع في المحظور لأنه منتبهش إنه: «أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ»
(جامعة٥: ٥
).
إزاي، كمؤمنين، ربنا بيتعامل مع شعورنا بالدونية وعدم الاستحقاق؟
أولاً ربنا
بيستخدمنا عشان يشفي دواخلنا، اللي تشبّعت بالشعور إنها أحقر وأقل من إنها تشارك في أي عمل له قيمة.
وثانيًا
بيدينا الثقة إننا مش محتاجين نقدِّم تنازلات، عشان يقف معانا، لكن بالعكس ده هو ده وعده لينا بدون مقابل.
وأخيرًا بيدينا
مكانة مكناش نحلم بيها: إننا أولاد الله نفسه.
إذا كنت بتشعر بانعدام القيمة، فربنا شايفك قيّم جدًا وغالي ومحبوب في عينه ومنقوش على كفه، بدون مجهود منك.
يفتاح انتصر في الحرب ولما رجع بيته، كانت بنته الوحيدة هي أول حد خرج لاستقباله. فدفع تمن التسرع في الوعود اللي قدمها.
كسب الحرب والمُلك وخسر بنته. فكانت التكلفة مش بسيطة لأنه ماكانش بيملك الثقة الكافية في جود الرب إنه يقدر يغير من واقعه بدون تقديم تضحيات.
ربنا بيغيرنا، لكن أحيانا بنصعَّب على نفسنا الطريق، وأحيانا خطايانا وتشوهنا بيخلينا ندفع تمن قراراتنا اللي كان بينقصها الإيمان والثقة في الرب.
عاش يفتاح حياته كلها حاسس بالدونية ومكنش مصدق إن ممكن حد يساعده بدون مقابل أو بدون تضحية. يساعده من غير ما ياخد منه حاجة في المقابل أو يستغل نقط ضعفه.
يا ريت نتعلم عن ربنا إنه بيحبنا فعلاً، وإنه مدفوع فينا تمن غالي، وإننا محبوبين وغاليين عليه ومنقوشين على كفه. فنحس بالقيمة والحرية والراحة النفسية، ونعبد الرب بفرح وبطيبة قلب بمشاعر فيها امتنان وتقدير مش عن ضعف وانهزام وقلة حيلة.