روى خادم الرب ”ريتشارد ويمبراند“ هذه القصة:
كان ”ديميتري“ - أحد زملائي السجناء - مسجونًا مثلي بسبب إيمانه بالمسيح. وفي السجن، ضربه أحد الحراس - بشكل متكرر - بهراوة (عصا غليظة)، على عموده الفقري؛ وللأسف كانت النتيجة أن ”ديميتري“ صار مشلولاً! لقد ظلَّ عشرين عامًا مستلقيًا على ظهره، دون حراك.
لكن عندما سقط النظام السياسي الشيوعي، جاء ضابط الأمن السري الروماني، الذي دمَّر حياة ”ديميتري“،يطرق باب مسكنه، وقال له : ”أَعلم أنه لا يُمكن أن يُغفَر لي، فما فعلته كان شنيعًا للغاية. لكن استمع فقط إلى اعتذاري، وسأرحل“.
أجاب ”ديميتري“: ”لقد صليت من أجلك كل يوم لمدة عشرين عامًا. كنت أنتظرك.. وقد سامحتك“.
يا للروعة! هذا هو جوهر المسيحية. أي موقف آخر ليس كذلك!
أيها الأحباء، ألا نشعر بصغر حجمنا أمام ”ديميتري“. دعونا نتعلَّم مثله أن نُصلي من أجل أولئك الذين ظلمونا. إن الرب يسوع نفسه، عندما صُلِب، كانت أولى العبارات التي نطق بها على الصليب، كانت صلاة لأجل الأعداء الذين رفضوه من البداية، وأرادوا التخلص منه بأي ثمن، والذين لم يَكُن يشفي غليلهم مجرد موته فقط، بل موته مصلوبًا. وها هُم قد مضوا به إلى الموضِع الذي يُقال له: «مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ»، ونفّذت أياديهم الآثمة ما أرادت قلوبهم الأشد إثمًا. ولكن ها هو الرب يسوع يُصلي لأجلهم! تُرى ماذا يقول؟ إنه يقول: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا٢٣: ٣٤). لقد كانت لحظات عذاب جسدي ونفسي أليم يفوق الوصف، ومع هذا لم ينطق الرب يسوع بكلمة صراخ من الألم، ولا بكلمة لعن على هؤلاء المتسببين في هذا الألم المُبرِح، بل بهدوء صلّى لأجل قاتليه عديمي الرحمة «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ». فيا للكمال! ويا للجمال! ويا للسمو!
أَما كان بوسع ابن الله أن يجعل الأرض تفتح فاها، وتبتلع أولئك الأشقياء أحياء؟! لقد كان - تبارك اسمه - موضع احتقارهم، وعلى أيديهم كان يتجرع من غُصص الألم ما نعجز عن وصفه، ومع ذلك ها هو يصلي قائلاً: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ»! فيا للنُبل الإنساني! ويا للنعمة الغافرة! ويا للمحبة الغامرة!
إن الرقة والمحبة وهدوء النفس التي بدت من المسيح لَهي صفات تُناقض بكيفية عجيبة القسوة والكراهية اللتين كانتا في قاتليه، وهي تُقدِّم لإيماننا صورة للمحبة الكاملة التي تُشرق على كل العصور وإلى الأبد.
والآن ماذا بالنسبة لنا؟ لقد ترك لنا المسيح مثالاً لكي نتبع خطواته (١بطرس٢: ٢١). إن كلمات الرب يسوع هذه تُعلّمنا درسًا عظيمًا في الغفران المسيحي. لقد صلى لأجل قاتليه، فيجب أن نصلي نحن لأجل المُسيئين إلينا (متى٥: ٤٤). تُوجد أشجار تغمُر الفأس التي تضربها وتضربها بعصير ذي رائحة زكية، وهكذا يجب أن يكون الحال مع شعب المسيح. فبدلاً من الغضب ومقابلة الإساءة بمثلها، يجب علينا أن نُظهِّر المحبة الحقيقية والروح الطيبة، لمن يُوقع الضرر بنا. وهكذا أوصانا الرب يسوع في موعظة الجبل: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى٥: ٤٣-٤٥). إننا بالصلاة نستجلب القوة الإلهية التي تُمكننا مِن أن نغفر. وبالغفران نُظهِر حقيقة ما نحن عليه بالفعل، ونُبرهن أننا فعلاً أبناء الله. وبالمغفرة نتذوق المزيد من غفران الله لنا. يذوب قلبنا فيجد قوة الحب. تُفسح المرارة الطريق للشفقة على أولئك الذين ظلمونا. وقد يُمكننا ربحهم بعد ذلك إلى محبة المسيح. هذا هو انتقام المسيحي الوحيد «فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ» (رومية١٢: ٢٠، ٢١).
هكذا فعل اسْتِفَانُوسُ، الشاهد الأمين للمسيح، الذي رُجم حتى الموت بعد أن أدّى الشهادة للبار القدوس، وقد ترك لنا مثالاً مؤثرًا، إذ قبل تسليم روحه إلى الرب «صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أعمال٧: ٦٠). فكلمات اسْتِفَانُوسَ هذه تُذكّرنا بكلمات الرب يسوع «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ». لقد تبع استفانوس بحق خطوات الرب يسوع (١بطرس٢: ٢١).
وهذا هو الأساس العظيم الذي يبني عليه الرسول بولس تعليمه في رسالة كولوسي، حيث يُعدَّد لنا سبع صفات للمسيح يجب أن تنعكس في حياة كل مؤمن هنا على الأرض «أحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هَكَذَا انْتُمْ أيْضًا» (كولوسي٣: ١٢، ١٣). وأيضًا في رسالة أفسس يُوصينا: «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ» (أفسس٤: ٣٢). فإذا كنا مولودين من الله، فنحن مغفورو الخطايا، ولذلك فعلينا نحن بدورنا أن نغفر للآخرين. فالشخص الذي يقبل الغفران من إله كل نعمة، يجب عليه أن يحفظ قلبه، حارسًا إياه ضد الحقد والغلاظة عندما يُسـيء أو يُخطئ إليه أحد، بأية طريقة كانت.
نعم.. ما أحوجنا إلى غفران المسيح وحنُّوه لشفاء أنفسنا من المرارة والرغبة في الانتقام، ولشفاء جراح الآخرين وقساوة قلوبهم!