لا شك أن القناعات المُختزنَة، في بواطن عقولنا عن شخصية الله، تساعدنا في علاقتنا معه وأيضًا في سلوكيات حياتنا. واليوم نقف أمام بطل جديد، ونغوص داخل كنوز عقله، لنحاول أن نستكشف لماذا كانت سلوكيات حياته أشبه بدُرر أدبية، حتى أنه يُعتبَر الشخصية الأكثر شبهًا بالرب يسوع.
قطعًا بفطنتك عزيزي فهمت عمَنْ أتحدث، نعم هو يوسف نذير إخوته (تكوين٤٩: ٢٦)، أي خيرة إخوته.
فما سُجل في سفر التكوين منذ ولادته أصحاح ٣٠ وإلى موته أصحاح ٥٠، هو موضوع إعجاب لكل الأجيال وكل الأجناس، واليوم سنبحث بعدسات مُقدَّسة خلف سلوكياته، لعلنا نفهم قناعاته وتحديدًا فيما يخص شخص الله.
وُلد يوسف بعد التسعين من عُمر يعقوب، ومن الزوجة المحبوبة راحيل، فكان له مكانته في قلب يعقوب، وقد عبّر أبوه عن ذلك بقميص ملون (تكوين٣٧: ٣) ليوسف فقط دون إخوته، وقد أثبتت الأيام أن حياة يوسف مليئة بالألوان، ولكن بيد أعظم فنان، الذي استطاع أن يستخدم ليس فقط قميص يوسف، بل قصة حياة يوسف، ليعطينا لوحة أدبية راقية. فربما تجِد لونًا فاتحًا في بيت يعقوب حيث الدلال، ولكن سرعان ما تجد غمقان لون كراهية إخوته، ولتشتد درجة في تكوين٣٧، حيث ظلام البئر، وتستمر ليصير الفتى المُدلّل في ثوب الخدمة، عبدًا عبرانيًا في بيت فوطيفار. ومع كون لون الظروف غامق، أظهر الفتى بياضًا ناصعًا في رفضه للخطية، وهنا نقف لنسأل لماذا تصرف هكذا؟
وللإجابة على ذلك سأبحث عن قناعة في عقله، من جهة كيف يفكر يوسف في الله؟ وعند قراءة القصة بعناية نجد أن امرأة فوطيفار قد استغلت أن البيت فارغ من أهله (تكوين٣٩: ١١)، فظنت أن قلبه فارغ؛ فطلبت الشر. لكن مع كون الفتى في سن المراهقة، ومحروم من الأم التي ماتت، لمع شخص آخر في المشهد وهو الله الذي يملأ حضوره البيت، ويرى كل خفي، فنطق صيحته الشهيرة «كَيْفَ أصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأخْطِئُ إلَى اللهِ؟»
لقد تعلَّم يوسف من تاريخ جدِه إبراهيم، أن آخذ زوجة آخر هو خطأ في حق الله قبل الزوج، وذلك في قول الرب لأبيمالك حينما أخذ سارة دون عِلم أنها زوجة إبراهيم «وَأنَا أيْضًا أمْسَكْتُكَ عَنْ أنْ تُخْطِئَ إلَيَّ لِذَلِكَ لَمْ أدَعْكَ تَمَسُّهَا» (تكوين٢٠: ٦).
كان لِما تعلمه ومارسه يوسف عن الله أثرًا فعَّالاً في حِفظه من الخطية. صديقي إن ممارسة الحياة في حضرة الله هي أكبر حافظ لقدميك من الزلل.
وحينما ترك الثوب وهرب نزيهًا، واجه لون في الحياة أشد غمقان من سابقه، إذ وُضع في بيت السجن ظلمًا، ولم نسمع لفظة تذمر على الله الذي كان معه وبسط لطفًا له. ولعلك تقول وما الفائدة من وجود الله وهو مظلوم في السجن؟ لا أستغربك إن فكرت هكذا، ولكن الفنان قَصَدَ أن يكون ظرف الحياة هكذا غامقًا، ولننتظر في نهاية اللوحة ربما نفهم. صديقي لوحة حياة الفتى يوسف تصرخ بقناعة أن صعوبة الظروف، لا تعني أن الله غائب عن المشهد، فليس وعد أنه لا ضيق، بل الوعد: مَعَهُ «أَنَا فِي الضِّيقْ» (مزمور٩١: ١٥).
وفي يوم من أيام السجن، حَلَمَ الساقي والخباز، فكان الله حاضر في المشهد من خلال يوسف، والذي تعلّم ربما من أبيه، في تكوين٢٨، أن الله يتكلم بالأحلام - حيث لم يكن كتاب مقدس مكتوبًا في ذلك الوقت - بل والله أيضًا هو من يفسرها، وقد كان، واستخدمه الله ليعلن مستقبل الاثنين، وقد حدث ما قاله بالضبط.
هنا سأقف، لكي أتعجب من شخص ينشغل بتفسير أحلام آخرين، ولم نسمع عن تفسير لحلمين سابقين له هو (تكوين٣٧: ٧، ٩)!
لقد كانت لفظة حلم كفيلة أن تذكّره أين الله من تحقيق أحلامك؟ لكن الفتى رغم سواد الظروف يلمع بلون أزرق سماوي عن ثقته في الله الذي له التعابير أي التفاسير. عزيزي، وإن وُجد في حياتك أمور لا تفسير لها، أرجوك كُن كيوسف واثقًا أن لله التعابير حتى وإن لم تفهم.
وحينما نصل لتكوين٤١، فيوسف أمام فرعون، مسجون أمام ملك البلاد، ويا للعجب الملك في حيرة والمسجون يعِده بالسلام، ولكن ليس من عنده، بل من الله مصدر ومانح السلام، بل وعنده الإجابة لكل حيرتك، وقال له جملته المُطمئنة: «اللهُ يُجِيبُ بِسَلامَةِ فِرْعَوْنَ». رغم حياة مليئة بالتساؤلات، يعلمنا الفتى أن الله يجيب، ليتنا نتمسك بهذه القناعة أن الله يجيب، وهنا نتشجع ونسأله، لكن نثق وننتظره، ”فإن تظنيه توانى فذا للخير بحكمته.. انتظري الرب يا نفسي يسوع قريب.. يميل إليك ويسمعك كذاك يجيب“.
وقبل أن يفارق حديثي حلم فرعون، عاد صاحب القميص الملون، ليظِهر ثقته في الله، حينما قال لفرعون: «وَأمَّا عَنْ تَكْرَارِ الْحُلْمِ... مَرَّتَيْنِ فَلانَّ الأمْرَ مُقَرَّرٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ وَاللهُ مُسْرِعٌ لِيَصْنَعَهُ». تعجبت منك يا فتى! حلّم وتكرار مرتين، هل هذا لا يذكرك بشيء؟ وكيف الله مُسرع لفرعون، ومبطئ ليوسف؟!
هذا هو سؤال ضعف الإيمان، فإن كان الظاهر سرعة تحقيق حُلّمي فرعون، ولكن الباطن، قد أتى وقت تحقيق حُلّمي يوسف، فليكن الله صادقًا، ولكن ما أروعه حينما يأتي الوقت، حين يأمر الفنان بلون فاتح، لظروف حياتنا فيجدنا في حالة شكر وليس تذمرًا، مثل الفتى الذي لم يُلقِ براية الإيمان بعد، ويعلِن اسم الله أمام فرعون.
عزيزي قد قارب حديثي على الانتهاء، ولكن كنز يوسف الأدبي، ما زال به المزيد من الدرر، ولما لا فمعنى اسمه يزيد. ولكن أخيرًا، سأقف عند يوسف وهو في ثوب البوص أي الكتان الأبيض (تكوين٤١: ٤٢)، حيث كان في قدرة يديه أن يرد لإخوته ما فعلوه، ولكن ثيابه البيضاء لمعت أكثر بغفرانه لإخوته، وقال صيحته الشهيرة: «لا تَخَافُوا لانَّهُ هَلْ أنَا مَكَانَ اللهِ؟» فالذي له السلطان هو الله، لذلك هو أرسلني لاستبقاء حياة. لقد رأى شر إخوته، وسيلة استخدمها الله لغرض أسمى ليُحْيِيَ شَعْبا كَثِيرًا.
ما أروعها قناعة عن الله أنه السلطان، المُهيمن على الكل، ومنه وبه وله كل الأشياء.
وإلى أن القاك في عقل آخر وقناعات أخرى. الرب معك.