من ضمن الظواهر الغريبة في الشارع المصري، حين يقوم قائد سيارة بإيقافها في وسط الطريق لأي سبب (مستني المدام - بيسلم على صاحبه)، ومع ذلك لا يُعطي المساحة اللازمة لأي سيارة آتية من خلفه أن تسير بجواره وتعبر الطريق، وحين تُظهر أنت أي امتعاض من هذه ”الرَكنة“ الغريبة، يُجيبك بكل سلام نفسي: تعال ... هاتجيبك.
والعجيب أن هذا الشخص ”الراكِن“ في وسط الشارع، لا يُكلِّف نفسه أن يتحرك بعض السنتيمترات، لكي ”يوسِّع“ المساحة للسيارة الآتية من خلفه. لكنه يكتفي فقط بإعطاء النصائح لقائدها (يمين شوية - اعدل الدريكسيون - أيوه كده - طيب أنزل وأنا هاعديك)، مع أن الحل الأبسط معه هو وليس مع قائد السيارة الأخرى.
والأكثر من هذا، أن هذا السائق المستبيح للشارع، لا يعرف ظروف السيارة القادمة من الخلف؛ ربما تخص أحد ذوي الهِمم محدود التحكم في القيادة، أو ربما تكون سيارة تعليم قيادة ولا يستطيع المتدرب أن يجتاز بها وسط الطريق المزدحم الضيق، أو ربما تكون سيارة كبيرة الحجم لا يمكن أن تعبر من المساحة المتاحة الضيقة. لكن صاحب السيارة الذي ركن في وسط الطريق لا يهمه كل هذا، ويكتفي بهذا التعبير: تعال يا بيه ... متخافش هاتجيبك.
وهنا تبادر لذهني عدة ملاحظات روحية، أشاركك - عزيزي القارئ - بمُلخصها.
الحدود الخارجية
أول فكرة جالت في ذهني، هي عدم احترام هذا السائق لحدود الناس الآخرين؛ فظن أن الشارع ملكه وحده، وأنه الآمر الناهي فيه. وهو ما يرتبط بشكل كبير بنقص في فهم موضوع الحدود، والذي يحدِّد المطلوب مني والمطلوب من غيري.
خاصةً أننا نعيش في هذه الأيام الأخيرة موجة غريبة من فساد العلاقات الإنسانية؛ فالأخ يقاطع أخيه بسبب خلاف على الميراث، والصديق يخون صديقه بسبب تنازع على فرصة، والابنة تشتكي أمها بسبب فهم خاطئ لكلمة، والابن يرفع قضية على أبيه بسبب فتنة من شخص خبيث. واندثرت كلمات الوفاء والإخلاص والعطاء في أغلب العلاقات بين البشر.
ونحن نحتاج أن نسمع ونقرأ كثيرًا في موضوع الحدود الخارجية في العلاقات، والذي يقينا الكثير من المشاكل، ويخمد المصائب من بدايتها، و”يفلتر“ العلاقات الصحيحة من العلاقات المدمرة Toxic، مع أن كثير من هذه العلاقات يصعب التخلص منها؛ لأنهم قد يكونوا أقرب الناس إلينا!!
والحقيقة أن موضوع الحدود الخارجية في العلاقات له مرجعية كتابية، فمثلاً أبونا إبراهيم وضع حدودًا مع ابن أخيه لوط، قبل أن تتحول المخاصمة التي جرت بين رعاتهما إلى مخاصمة بينهما هما شخصيًا. فقال إبراهيم (الأكبر مقامًا وسنًا): «لاَ تَكُنْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ رُعَاتِي وَرُعَاتِكَ، لأَنَّنَا نَحْنُ أَخَوَانِ. أَلَيْسَتْ كُلُّ الأَرْضِ أَمَامَكَ؟ اعْتَزِلْ عَنِّي. إِنْ ذَهَبْتَ شِمَالاً فَأَنَا يَمِينًا، وَإِنْ يَمِينًا فَأَنَا شِمَالاً» (تكوين١٣: ٨، ٩).
وهذه الحدود الخارجية حافظت على علاقة إبراهيم بلوط، فلما علم إبراهيم بأمر الحرب العالمية التي جرت، وكانت سدوم وعمورة أحد أطرافها، وجاءه رسول بأن «أَخَاهُ سُبِيَ. جَرَّ (إبراهيم) غِلْمَانَهُ الْمُتَمَرِّنِينَ، وِلْدَانَ بَيْتِهِ، ثَلاَثَ مِئَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَتَبِعَهُمْ إِلَى دَانَ» (تكوين١٤: ١٤)، فخاطر إبراهيم بحياته وذهب لنجدة لوط، وفي نفس الوقت احترم حدوده الخارجية مع لوط، ولم يجبره على العودة معه لأرض كنعان، ورجع لوط بإرادة حمقاء مرة أخرى لسدوم!!
وليس هذا فقط، لكن أيضًا إبراهيم تشفَّع للوط أمام الله أكثر من مرة، لما شاركه بنيَّة قلب سدوم وعمورة، حتى انتزع إبراهيم قرارًا من الله ”خليله“ بألا يُهلك المدينة إن وجد فيها عشرة أبرار (تكوين١٨: ٣٢). مع أننا لا نقرأ أن إبراهيم تفاوض مع الله في أي أمر يخصه شخصيًا، ولم يصلِّ بنفس الأسلوب التفاوضي وهو ينتظر ابنًا من الله، فيقلل مدة الانتظار من ٢٥ سنة إلى ٥ سنين مثلاً. كل هذا فعله إبراهيم لأنه يحب لوط الذي سبق ووضع حدود خارجية معه.
الحدود الداخلية
لكن ما قد يفوت على الكثيرين، أنه قبل أن يضع إبراهيم حدود مع لوط من خارجه فقد وضع حدود داخلية مع نفسه، وهو أمر مهم جدًا، ونستشفه أيضًا من قصة السائق السابق ذكرها؛ فلو كان هذا السائق احترم نفسه في البداية، وركن سيارته بعيدًا عن تعطيل الطريق، كان من السهل عليه أن يضع حدودًا خارجه.
ولنرجع مرة أخرى لإبراهيم، ونلاحظ جملة ذُكرت أثناء وضع إبراهيم لحدوده مع لوط، فنقرأ «فَحَدَثَتْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنَ رُعَاةِ مَوَاشِي أَبْرَامَ وَرُعَاةِ مَوَاشِي لُوطٍ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ وَالْفَرِزِّيُّونَ حِينَئِذٍ سَاكِنِينَ فِي الأَرْضِ» (تكوين١٣: ٧)، ولأن الوحي المقدس لا يذكر أي حرف اعتباطًا، فالمفهوم من هذه الإضافة عن سكان الأرض، أن إبراهيم عمل اعتبارًا لنظرة الشعوب من حوله له ولابن أخيه لوط، ولذا لم يدخل في نقاشات وخلافات تشوه صورته كالغريب الحقيقي بينهم، وهذا ساعده أن يقول لاحقًا لابن أخيه لوط: اعتزل عني.
وهو درس رائع ونادر التطبيق أيضًا، فقبل أن تطالب الآخرين بأن يحترموا حدودك الخارجية، عليك أنت بنفسك أن تحترم حدودك الداخلية. فلا تشوه الاسم الذي دُعي عليك، ولا تتورط في أي قضايا خلافية لا تفيد دعوتك، أو تعلن آراء صدامية قد تشوه صورتك، فجميع من حولك يلاحظونك.
وكانت النتيجة الرائعة لهذه التضحية النبيلة من إبراهيم، ليس فقط أن الله عوَّضه بعشرات المرات ماديًا بالمقارنة بلوط الخاسر لكل شيء، لكن المكاسب الروحية والمعنوية أفضل بكثير. فلما قال لجيرانه بني حث الذين يراقبون سلوكه: «أَنَا غَرِيبٌ وَنَزِيلٌ عِنْدَكُمْ»، فإنهم ردوا عليه: «اِسْمَعْنَا يَا سَيِّدِي. أَنْتَ رَئِيسٌ مِنَ اللهِ بَيْنَنَا» (تكوين٢٣: ٤، ٦).
وهذا هو الجزاء البديع لكل شخص يعرف كيف يضع الحدود داخليًا مع نفسه، قبل أن يطلبها خارجيًا من غيره، وتكون لغته: ”أنا هاتحرك لك علشان تجيبك“، بدلاً من: ”تعال.. هاتجيبك“.