وصلنا في رحلتنا عبر ”جميع الكتب“ إلى أول الأسفار النبوية في الكتاب، سفر إشعياء، أو كما يحب البعض أن يسمونه ”الإنجيل الخامس“ أو ”النبي الإنجيلي“ بسبب كثرة ما يحتويه من نبوات عن المسيح وتعزية لشعب الله.
نجد في سفر إشعياء أشهر نبوات العهد القديم عن ميلاد المسيح العذراوي، إشعياء٧: ١٤، «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ». وعن حياته وموته (إشعياء٥٣). وعن عظمته، إشعياء٩: ٦ «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَم».
كما يحوي على أشهر نبوات العهد القديم عن الممالك العظيمة مثل بابل (ص١٣؛ ١٤)، وآشور (ص١٠)، ومصر (ص١٩).
الكاتب هو إشعياء ابن آموص ومعنى اسمه ”خلاص يهوه“ ويقول التقليد إنه كان من النسب الملكي وأنه مات منشورًا بالسيف على يد الملك منسَّى ولعل ما ورد في عبرانين١١: ٣٧ هو إشارة لذلك.
تنبأ أيام عُزيَّا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا في الفترة من ٧٣٠-٦٨٠ ق.م تقريبًا، أي أنه عاصر السبي الأشوري لمملكة اسرائيل وتهديدات ملك آشور لمملكة يهوذا (ص٣٦-٣٩)، وعاصر موت سنحاريب ٣٧: ٣٧، ٣٨ (٦٨١ ق.م).
أطاع إشعياء دعوة الرب عندما سمع: «مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» فَقُلْتُ: «هأَنَذَا أَرْسِلْنِي» (٦: ٨) وبسبب طاعته هذه أصبح واحدًا من أعظم الأنبياء. تميَّز إشعياء بوضوحه في إعلان قول الرب لشعبه سواء من التوبيخ على الحالة وإعلان القضاء بسببها، أو التعزية والبركة التي سيمتع الرب شعبه بهما. كما تميّز برقة مشاعره وبكائه سواء على شعبه (٢٢: ٤) أو على الشعوب الأخرى (١٦: ٩).
وكالعادة لكي نعرف موضوع السفر، نعرف أولاً ما هي الكلمات المفتاحية فيه؟ بالبحث نجد أن أكثر الكلمات والعبارات تكرارًا في نبوة إشعياء هي:
”خلاص“ ومشتقاتها: ٢٨ مرة (بالمقابلة مع سبع مرات في باقي الأسفار النبوية في العهد القديم)، ”ويل“: ٢٢ مرة، ”قدوس إسرائيل“ ٢٨ مرة (٤×٧، من أصل ٣٢ مرة في كل الكتاب، ومرة واحدة ”قدوس يعقوب“ ٣٠: ٢٣) كما ترد كلمة ”تعزية“ بمرادفاتها ١٨ مرة. وبذلك، كما نجد من قراءتنا للسفر، يكون موضوع السفر هو قداسة الله التي استلزمت القضاء على شعبه ثم بركتهم وتعزيتهم في النهاية. أو بكلمات أخرى قداسة الله التي استلزمت القضاء والدينونة ثم خلاصه سبب تعزيتهم.
مدى النبوة في سفر إشعياء طويل فهو يمتد من غزو آشور مرورًا بمجيء المسيح الأول ثم مجيئه الثاني وتأسيس مُلكِه السعيد، أي أن مدى النبوة يمتد لما يقرب من ٤٠٠٠ سنة! ولمعرفة علاقته بباقي أسفار الأنبياء الكبار، يُرجى الرجوع للمقال السابق من هذه السلسلة.
من أوضح ما يميّز سفر إشعياء هو عدد أصحاحاته ٦٦، وهو نفس عدد أسفار الكتاب وما يثير إعجابنا هو أن الـ٣٩ إصحاحًا الأولى متشابهة في أسلوبها وطابعها مع طابع العهد القديم الذي يثبت فساد الإنسان ووجوب القضاء، أما الـ٢٧ إصحاحًا التالية فمتشابهة مع العهد الجديد حيث تظهر النعمة والبركة ويكفي هنا أن نشير أن الآية الأولى في هذا القسم الثاني، ٤٠: ١ هي «عَزُّوا، عَزُّوا شَعْبِي، يَقُولُ إِلهُكُمْ».
طبقًا لأحد الشُرَاح، يمكن تقسيم سفر إشعياء إلى ثلاثة أقسام كُبرى هي: ص١-٣٥: قسم نبوي وص٣٦–٣٩ وطابعه تاريخي ثم ص ٤٠-٦٦ وطابعه مسياني، أي مشغول بالمسيا الآتي.
في القسم الأول نجد نبوات على يهوذا (ص١-١٢) ثم نبوات على الأمم المحيطة بإسرائيل (ص١٣-٢٧) ثم حديث عن الدينونة ثم البركة (ص٢٨-٣٥).
القسم الثاني: جزء تاريخي (ص٣٦-٣٩) عن الملك حزقيا وتهديدات سنحاريب ملك آشور له وهذا السرد التاريخي له تطبيق نبوي على شعب إسرائيل وضيقتهم المستقبلية العظيمة وتخليص الرب لهم من أعدائهم في ظهوره بالمجد والقوة.
في القسم الثالث يَرِد الحديث أولاً عن تعزية (خلاص) إسرائيل (ص٤٠-٤٨)، ثم عن مُخلِّص إسرائيل (٤٩-٥٧) ثم عن تمجيد إسرائيل في المستقبل تحت حكم ومُلك المسيا (ص٥٨-٦٦).
في القسم الأول نجد قدوس إسرائيل يوبخ، وفي القسم الثاني نجده يُخلِّص، وفي القسم الثالث نجده يُعزِّي.
جاء ذكر اسم النبي ”إشعياء“ ٢١ مرة في العهد الجديد في اقتباسات من نبوته، وتشمل هذه الاقتباسات النبوات عن يوحنا المعمدان (متى٣:٣)، حياة المسيح (متى٨: ١٧)، حالة الشعب (مرقس٧: ٦) ومعاملات الله مع إسرائيل ومع الأمم (رومية١٠). ويبلغ مجمل الاقتباسات من النبوة في العهد الجديد حوالي ستين اقتباسًا.
يُقدم سفر إشعياء المسيح باعتباره المسيا المتألم ثم الممجَّد، وهذا ما نجده في أشهر أصحاحات السفر، إشعياء٥٣، آلامه من البشر (٥٣: ٣) ومن الله (٥٢: ١٤؛ ٥٣: ٤-١٠) ثم تمجيده (٥٣: ١١، ١٢).
كما نرى المسيح أيضًا باعتباره ”عمانوئيل“ (٧: ١٤؛ متى١: ٢٢، ٢٣) و”غصن الرب“ (٤: ٢؛ ١١: ١) و”عبد الرب“ (ص٤٢: ١؛ ٥٢: ١٣).
في أولى عظاته (لوقا٤)، قرأ المسيح من سفر إشعياء٦١ وتحدث عن ”سنة الرب المقبولة“ وهي الفترة الممتدة من مجيء المسيح الأول حتى عودته بالمجد والقوة، ولم يقتبس من نبوة إشعياء الحديث عن ”يوم الانتقام“ لأنه في مجيئه الأول لم يأتِ ليدين العالم، بل ليُخلص العالم (يوحنا٣: ١٧).
أبرز الدروس الروحية التي يضعها أمامنا سفر إشعياء هو قداسة الله، فالله: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ» (٦: ٣). قداسته تكشف حالتنا كما حدث مع إشعياء نفسه فصرخ قائلاً: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ» (٦: ٥)، ومع الشعب (١: ٢-١٥). لكن نعمة الله جاهزة دائمًا بالعلاج (٦: ٦-٧؛ ١: ١٦-٢٠). فيا ليتك تكون قد أخذت لك حصة من هذه النعمة يا صديقي!
أرجو أن تكون قد ساعدتك هذه المقدمة البسيطة على معرفة الخط العام لنبوة إشعياء وفتحت شهيتك الروحية لقراءة السفر والشبع به.
نلتقي في العدد القادم بمشيئة الرب مع نبوة إرميا.