بدأنا في العدد السابق تأملاتنا في نصائح ثمينة جدًا كتبها الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس في رسالته الأولى، وذكرنا نصيحتين الأولى: «لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ، بَلْ كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْكَلاَمِ، فِي التَّصَرُّفِ، فِي الْمَحَبَّةِ، فِي الرُّوحِ، فِي الإِيمَانِ، فِي الطَّهَارَةِ» (١تيموثاوس٤: ١٢) والثانية: «إِلَى أَنْ أَجِيءَ اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ» (١تيموثاوس٤: ١٣).
ونستكمل اليوم بقية النصائح راجين من الرب أن يملأ بها قلوبنا ويعطينا قدرة بنعمته أن نعيش بهذه النصائح الغالية ليكون تأثيرها واضحًا وعميقًا في حياتنا وحياة الكثيرين.
٣- اهتم بموهبتك؛ فهي أساس تقدمك
قال بولس لتيموثاوس: «لاَ تُهْمِلِ الْمَوْهِبَةَ الَّتِي فِيكَ، الْمُعْطَاةَ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ مَعَ وَضْعِ أَيْدِي الْمَشْيَخَةِ. اهْتَمَّ بِهذَا. كُنْ فِيهِ، لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ» (١تيموثاوس٤: ١٤، ١٥).
ربما يندهش البعض من هذه النصيحة؛ فهناك من يُنادون بعدم الانشغال بالموهبة، مُدعين في ذلك أنها جزء من الانشغال بالنفس. لكن الرسول بولس لا يقصد ذلك بالتأكيد. فهو ينصح تيموثاوس ألا يُهمل الموهبة التي فيه؛ فهناك الكثيرون ممن أعطاهم الله موهبة وانشغلوا عنها بأمور العالم ولم يمارسوا موهبتهم فخسروا كثيرًا، كما خسرت الخدمة أبطالاً. هذا ما يقصده بولس.
ربما يقصد بولس أيضًا أن يُدرك تيموثاوس قيمة ما أعطاه الله له، فلا يهمل الموهبة، ولا يستصغر نفسه، ولا يعرض عنها. ربما كان تيموثاوس يعتبر نفسه مجرد شاب صغير يخدم مع بولس ويعمل كمساعد له. وهذا الأمر يقضي على الكثير من المواهب. فلا بد أن يدرك كل خادم أن له موهبة خاصة يخدم بها. وبناءً على ذلك فهو يخدم الله بالموهبة التي أعطاها له.
ذكر بولس كيف أخذ تيموثاوس هذه الموهبة حتى يشجعه على إضرامها والاهتمام بها؛ فقد أُعطيت له بالنبوة، ووضع أيدي المشيخة. فالأمر فيه جدية، ولا يحتمل الشعور بالدونية وصغر النفس. لقد دعاه الرب للخدمة وأعطاه موهبة واضحة وصريحة. حتى أن الشيوخ اتفقوا على ذلك واضعين عليه الأيادي تأكيدًا لموهبته. فلا بد أن يتعامل مع الأمر بجدية، واهتمام.
يعطي بولس سببًا هامًا جدًا للاهتمام بالموهبة؛ مؤكدًا أن هذا الأمر أساسًا للتقدم في كل شيء. فمن يهتم بموهبته، ويضرمها سيتقدم في معرفة الله، وفي الخدمة، والتأثير على الآخرين. لأن الله يعطينا أكثر كلما وثقنا وسلكنا بما أعطانا إياه. ويمكننا إبراز مبدأ هامًا هنا أن الخادم الذي يعرف موهبته، ويهتم بها، ستكون حياته في تقدم مستمر.
استخدم بولس كلمات رائعة للتعبير عن الاهتمام بالموهبة فقال: «اهْتَمَّ بِهذَا. كُنْ فِيهِ» وهذه الكلمات تشير إلى الاستغراق التام في أمرٍ ما. فبولس يطلب من تيموثاوس أن يهتم اهتمامًا كبيرًا بالموهبة التي أعطاها الرب له. وبالطبع هناك فارق كبير بين الاهتمام بالنفس والاهتمام بالموهبة؛ فالاهتمام بالموهبة معناه - كما سبق وذكرنا في العدد السابق - أن يهتم بدراسة كلمة الله، ليُقدم تعليمًا صحيحًا ونقيًا. ودراسة كلمة الله تجعل المؤمن كاملاً ومتأهبًا لكل عمل صالح (٢تيموثاوس٣: ١٦) وهذا الأمر بعيد تمامًا عن الانشغال بالنفس، وتحقيق أطماع ومكاسب شخصية.
يختم بولس هذه النصيحة بالنتيجة المترتبة عليها في قوله: «لِكَيْ يَكُونَ تَقَدُّمُكَ ظَاهِرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ»، فالمؤمن الذي يهتم بالموهبة المُعطاة له من الله ينمو ويصير تقدمه ظاهرًا وواضحًا للجميع.
٤- لاحظ نفسك باستمرار؛ لتخلص
«لاَحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هذَا، تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا» (١تيموثاوس٤: ١٦).
نرى في هذه النقطة عدة أمور؛ فملاحظة النفس هنا ربما تشمل كل ما سبق. حيث لا بد أن يتابع من وقت لآخر نصائح بولس التي أعطاها له. ملاحظًا مستوى التقدم في كل نقطة على حدة.
لكن أيضًا بولس يطلب منه أن يلاحظ نفسه والتعليم؛ ونفهم من هذا أنه ينصح تيموثاوس بأن يقيس نفسه دائمًا على تعاليم كلمة الله، حتى لا يحيد يمينًا أو يسارًا. فكم من خدام لله بدأوا بدايات رائعة ومبُشرة، ثم سرعان ما حادوا بعيدًا بسبب كبريائهم، واهتمامهم الشديد بنجاحاتهم، أو إرضاءً للناس، أو غيرها من الأمور غير النافعة. فلا بد للخادم أن يقيس حياته، وخدمته دائمًا على تعاليم ووصايا الكتاب في حضرة الله وبالصلاة الدائمة.
يختم بولس هذه النصيحة أيضًا بالنتيجة المترتبة عليها: «لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هذَا، تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا» والخلاص هنا مقصود به الحفظ، فقد بدأ بولس الرسول حديثه في هذا الأصحاح عن المعلمين الكذبة الذين يتبعون أرواحًا مُضلة وتعليم شياطين. ويُسببون اضطرابًا لشعب الله. فأراد بولس أن يؤكد تيموثاوس أن التزامه وأمانته في الحياة بحسب كلمة الله، وتقويمها بحسب مقاييس الكلمة يحفظه ويحفظ الذين يسمعونه أيضًا في حالة من الاستقرار، والتوهج الروحي، والامتلاء.
كم نشتاق في هذه الأيام أن نعيش بهذه الكلمات الثمينة في حياتنا، لنكون مؤثرين، ومثمرين في حياة الآخرين. وليكون تقدمنا ظاهرًا وحقيقيًا.