هناك أسئلة كثيرة محيِّرة في حياتنا، تسبب لنا الحيرة والقلق، وأحيانًا نجد لها إجابات وأحيانا لا. واحدة من هذه الأسئلة هو السؤال موضوع كلامنا، “لماذا تركتني؟”، والأعجب أن من سأله هو ربنا يسوع المسيح عندما عُلِّق على صليب الجلجثة!
ومن المهم أن نسبر أغوار هذا السؤال ونعالنا مخلوعة لأننا نقف على أرض مقدسة، لأننا كثيرًا ما نسأله في ظروف الحياة الطاحنة، إذ نعاتب الرب قائلين: «لماذا تركتني؟»
أولاً: هل يمكن لله أن يتخلى عن أتقيائه؟
إن كلمة الله تؤكد معية الله مع البار ورفقته لأتقيائه «لاَ يُحَوِّلُ عَيْنَيْهِ عَنِ الْبَارِّ، بَلْ مَعَ الْمُلُوكِ يُجْلِسُهُمْ عَلَى الْكُرْسِيِّ أَبَدًا فَيَرْتَفِعُونَ» (أيوب٣٦: ٧). وهذا ما اختبره كل الأتقياء عبر العصور، فقال داود عن اختبار عميق «فِي ضِيقِي دَعَوْتُ الرَّبَّ، وَإِلَى إِلهِي صَرَخْتُ، فَسَمِعَ مِنْ هَيْكَلِهِ صَوْتِي» (مزمور١٨: ٦)، وقال أيضًا: «لِهَذَا يُصَلِّي لَكَ كُلُّ تَقِيٍّ فِي وَقْتٍ يَجِدُكَ فِيهِ» (مزمور٣٢: ٦). حتى يونان، الهارب من وجه الرب، صرخ إليه في أعماق البحر قائلاً: «دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ فَاسْتَجَابَنِي. صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ فَسَمِعْتَ صَوْتِي» (يونان٢:٢). وكان هذا أيضًا اختبار الرسول بولس، يوم أن تخلى عنه الجميع فقال: «الْجَمِيعُ تَرَكُونِي... وَلَكِنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي» (٢تيموثاوس٤: ١٦، ١٧).
ثانيًا: هل فوجئ المسيح بالترك على الصليب؟
حاشا للمسيح أن يفاجأ بالأحداث فهو الذي قال عنه الكتاب: «خَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (يوحنا١٨: ٤)، بل وهو نفسه أعلن عدة مرات، أنه ليس فقط يعلم، لكن له السلطان أن يموت وأن يقيم نفسه «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا» (يوحنا١٠: ١٨). فالرب يسوع من تلقاء ذاته أخلى نفسه ووضعها للموت طواعية، وذلك ليفتدي نفوسنا المسكينة من الموت الأبدي لذا قال: «أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ» (يوحنا١٠: ١١).
ثالثًا: لماذا تُرك المسيح إذًا على الصليب؟
ما أروع ربنا يسوع المسيح وهو يتكلم بالنبوة، يبرر الله بقوله ««وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ» (مزمور٢٢: ٣). أي نعم أنت تركتني، وأنا أعلم يقينًا أنك أنت القدوس الذي لا تخطئ أبدًا، كما أنك أنت القدوس الذي عيناك أطهرا من أن تنظرا الشر ولا تستطيع النظر للجور.
ولأن المسيح، بكامل إرادته، أخذ مكاننا وذنبنا نحن المجرمين، فهو حمل خطايانا في جسمه على الخشبة ولقد وضع الرب عليه “إثم جميعنا” بل وأيضًا «أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ» (إشعياء٥٣: ١٠). فكان لا بد أن يُترك من الله، وهذا كان مكاننا نحن الآثمين، الترك من الله إلى أبد الآبدين. لقد أخذ المسيح مكاني ومكانك حتى لا نُترك نحن في الجحيم الأبدي. بل ويا للعجب نصير نحن بر الله، فيه مقبولين ومُرحَّب بنا في حضرة الله.
رابعًا: هل كَفّ المسيح عن الصلاة؟
اتسمت حياة بالمسيح بالصلاة حتى أنه قال عن نفسه: «أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً» (مزمور١٠٩: ٤). لكن الأعجب أن يصلي وقت تركه من الله وآلامه غير العادية فيقول: «إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي» (مزمور٢٢: ٢). لقد صلى المسيح في النور كما صلى في الظلام ولم تكن له استجابة! وهو لا يكف عن الصراخ، والله عن صراخه بعيدًا قد غدا، لا يستجيب مطلقًا. ولقد استمر المسيح يصلي إلى أن أكمل العمل.
نعم لقد تُرك المسيح إذ أخذ مكان المتروكين البعيدين، ولكن لم تنتهِ القصة عند هذا الحد، فلقد اِستُجيبت صلاته، إذ تمم العمل وأقامه الله من الأموات «إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ» (عبرانيين٥: ٧).
إخوتي الأحباء؛ قد يظن كل منا في ساعات حالكة أن الرب تركه تمامًا قائلاً مع صهيون: «قَدْ تَرَكَنِي الرَّبُّ، وَسَيِّدِي نَسِيَنِي» (إِشعياء٤٩: ١٤). لكن أرجو ألا نصدق العدو، فالرب لم، ولن، يبتعد عنا. صحيح قد لا نراه لتعب نفسيتنا أو دموع أعيننا كمريم المجدلية التي وقف الرب يسوع ورائها «وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ» (يوحنا٢٠: ١٤).
وما أروع النصيحة التي قدمها أليهو لأيوب وقت ألمه قائلاً: «فَإِذَا قُلْتَ إِنَّكَ لَسْتَ تَرَاهُ، فَالدَّعْوَى قُدَّامَهُ، فَاصْبِرْ لَهُ« (أيوب٣٥: ١٤).
إن شركتنا مع الرب وتمتعنا بحبه، لهو أروع ترياق لحمايتنا من تشكيكات العدو ضد الله، بل يجعلنا نتغنى واثقين «لأَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ عَلَى الأَبْرَارِ وَأُذْنَيْهِ إِلَى طَلِبَتِهِمْ» (١بطرس٣: ١٢)، وأيضًا «وَلكِنَّنِي أُرَاقِبُ الرَّبَّ، أَصْبِرُ لإِلهِ خَلاَصِي. يَسْمَعُنِي إِلهِي« (ميخا٧:٧).