هل راقبت عقلك من قبل، وحصرت عدد الأفكار التي تفكر فيها يوميًا؟
أعتقد أنها تجربة مُرهِقِة وقد لا تنجح فيها، لكن بعض الدراسات قد وصلت إلى أن الذهن يفكر ٤٨ فكرة في الدقيقة! وبحساب لليوم تكون قرابة ٧٠ ألف فكرة!
يا له من قطعة بالغة الأبداع فينا، تجعلنا نمجِّد الخالق، الذي قصد في حكمته أن نشابهه، بإعطائنا كبشر إياها، حينما قال: «نَعْمَلُ الانْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين١: ٢٦). وإن أردت تعريف وظيفي لهذه العطية: هو ببساطة الآلة القادرة على تجميع الأفكار المُتشابهة وتلخيصها في صورة “قناعة”، ومن ثم اختزانها في العقل اللاواعي حيث تخرج الأفعال والسلوكيات.
فإن سعيت لتفسير سلوكيات أحدهم، ابحث عن قناعاته. واليوم سنقف أمام قناعات رجل من أبطال الإيمان، يكفيه شرف أن لُقِّب بفم الرب يسوع “هابيل الصديق” (متى٢٣: ٣٥)، كان اسمه في لوحة الشرف الخاصة بالإيمان: «بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلَّهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!» (عبرانيين١١: ٤).
وهنا يلمع ليس فعل الإيمان الذي يُقدِّم فقط، بل وشهادة الإيمان التي تُشرِّف لكونها من الله، وأخيرًا تأثير الإيمان الذي يبقى حتى بعد موت صاحبه. هابيل والذي يعني “نسمة أو بخار”، وهو الاسم الرابع في البشرية، والابن الثاني لآدم وحواء، نشأ في أسرة أدركت أهمية تربية الحيوانات، ليس لغرض المكسب الدنيوي، بل الرضا الإلهي، فكان أول راعٍ للغنم (تكوين٤: ٢).
لم يكن في عصره زحمة في سوق العمل، لتجبره أن يكون راعيًا للغنم، فما القناعة التي قادته لهذه الوظيفة؟
وُلد هابيل بعد دخول الخطية، والتي عالجها الرب في الجنة بصنع أقمصة من جلد لستر عري أبويه، وكانت لهذه الحادثة آثرها في حديث العائلة، وقطعًا كان للذبيحة الدموية تقدير خاص في حديث أآدم وحواء عن الخلاص، وتوقعي أن هذا الحديث هو دليل إقناع هابيل بوظيفة رعي الغنم.
وهنا عزيزي القارئ ألمح سؤال في ذهنك، هل عَلَمَ قايين بهذه القناعة، الخاصة بالذبيحة؟
قطعًا عرف مثل أخيه، والدليل إنه قدم قربانًا للرب، ولكن من أثمار الأرض، وهنا ابتدع طريقًا جديدًا للتقديم، حذرنا منه الرسول يهوذا (يهوذا ١١)، لقد وضع الرب طريق الذبيحة فقط، للرضا عنا، ولكن قايين لم يقنع بذلك.
ونعود لهابيل الذي قَنَعَ بالذبيحة، بل وقدّم للرب من أبكار وسمان الغنم (تكوين٤:٤)، يا له من تقدير أن يعطي الأولوية للرب مُمثَلاً في أبكار الغنم، وأيضًا الأفضلية للرب مُمثلاً في سمانها؛ وليس غير الإيمان يقودنا لذلك.
لقد زرع آدم وامرأته في عقل هابيل ابنهما، قناعة الذبيحة كطريق للقبول أمام الرب، وهنا أشجعك لو كنت أب فهذه مسؤوليتك أن تزرع قناعة في صغيرك، تقوده إلى معرفة الخلاص، مثل جدة تيموثاوس وأمه اللتان منذ الطفولية عرّفاه الكتب التي تحكمه للخلاص (٢تيموثاوس٣: ١٥). ولكن أظهر هابيل مسؤوليته تجاه ما عرفه من قناعة، فقدَّم ذبائح أفضل، وليست أفضليتها في غناها أو في حجمها، لكن في طبيعتها المُطابقة لمواصفات الله، الذي شهد له أنه بار.
عزيزي لا بد أن كل قناعة حقيقة مُكلِّفة، ربما تكلف وقتًا أو طاقة أو مالاً، ولكن أصعب أنواع التكلفة، هي أن يموت المُقتنع بسبب قناعته، نعم لقد قُتل، بل وذبُح هابيل (١يوحنا٣: ١٢)، والسبب أن أعماله كانت بارة عن أخيه قايين. آه يا قايين يا ليتك تعلمت ذبح الغنم بدل من ذبح أخيك!
لقد ذكر لنا الكتاب هذه الحادثة البشعة، لأول استشهاد في التاريخ، ليس ليخيفنا، بل لنتعلم الدرس أن القناعة الحقيقة لها تكلفة، فإن لم تكن قناعتك تستحق أن تموت لأجلها، فلا تستحق هي أن تحيا بها، أدعوك عزيزي لميزان القناعة لتضع عليه أفكارك وتوجّهات حياتك، ولنتعلم من هابيل أساسيات لتَبَني القناعة: أن تكون الأفضل بمقياس الله، وتستحق التضحية من أجلها.
لكن هل كان الله بلا رد فعل لحادثة استشهاد هابيل؟ تتعجب عزيزي إن أخبرتك أن الله لم يكن رد فعل، بل كان البادئ؛ فقبل أن ينفِّذ قايين فعله الشنيع، حاوره الرب «لِمَاذَا اغْتَظْتَ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ إنْ احْسَنْتَ أفَلا رَفْعٌ. وَإنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ وَإلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَانْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا» (تكوين٤: ٦-٧)، فكان الرب في نعمته يريد أن يُصلح طريقة، فأخبره أن يُحسِّن طريقته، فكان الله يعلم فكر قلبه وأراد تغييره، لكن قايين قام على أخيه وقتله، وبعد ذلك نرى الرب يعاقب قايين بلعنة لفعله.
ولكن هل منسيٌ عند الرب دم زكي مثل هذا؟ حاشا، فقول الرب لقايين صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض (تكوين٤: ١٠)، يؤكد أن كل نقطة دم اُهدرت لأجل قناعات الإيمان لن تضيع، فيكفيه شرفًا أن صوت دمه المهدور، يُوضع إلى جانب أعظم صوتٍ لدمٍ مرشوش على الإطلاق، وهو دم يسوع المسيح «وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ» (عبرانيين١٢: ٢٤)، وإن كان دم يسوع يطلب الغفران أما هابيل فيطلب الانتقام.
عزيزي وإن مات هابيل، المؤمن بالقناعة، فتبقى القناعة ثابتة وراسخة لأنها حقيقة كما هو مكتوب «وَبِهِ (الإيمان)، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!» (عبرانين١١: ٤).
أدعوك عزيزي أن تراجع سلوكياتك، وتكتشف ما ورائها من قناعات، ثم تزن قناعتك، راجيًا أن تفكر فيها مجاوبًا على هذه الأسئلة:
١- هل هي الأفضل طبقًا لله؟
٢- هل تستحق أن تُضحي من أجلها بأي غالي حتى وإن كان حياتك؟
٣- هل إن انتهت الحياة المُدافعة عن القناعة، تستمر القناعة في أجيال آخرى؟
٤- هل مطابقة لما هو مُعلن في المكتوب؟
إن صَمَدَت أمام أسئلتي تمسك بها، وإن سقطت أرجوك اتركها، مُعوضًا ذهنك بما هو أثبت منها من الكتاب المقدس.