تضخيم القدرات

الشيطان لم يتغير، وأهدافه كذلك؛ فهو يبغي تدمير البشر ومحاربة ملكوت الله. ولكن في عصرنا الحالي غيَّر من تكتيكاته، ونوَّع من مكائده، مستخدمًا التقدم العلمي والفضائي والتكنولوجي الرهيب، والتي عندما نلتفت إليها سنجد أنه استخدمها مع غيرنا، وذكرها الكتاب المقدس لتحذيرنا. وحديثنا هذا العدد عن تضخيم القدرات

في حقبة الثمانينيات كانت الولايات المتحدة الأمريكية في أزمة؛ إذ إن الزحف الروسي يتتابع، وخطر الحرب النووية يعود من جديد، والشباب عازفون على التجنيد الاختياري بسبب أصداء الفشل في حرب فيتنام.

وجرى إخطار أعضاء مجلس الشيوخ بما يواجهه الجيش الأميركي من حرب تجنيد المواهب في ظل تقلص عديد كتائبه، ومن هنا ظهرت الحاجة لاستخدام البروبجاندا عن طريق السينما.

ومع أنها وسيلة أمريكية قديمة، فهناك أكثر من ٨٠٠ فيلم تلقى دعمًا من الجيش الأميركي، من بداية فيلم Wings (أجنحة) عام ١٩٢٧م، إلا أن الهدف لم يُصَب إلا في سنة ١٩٨٦م عند صدور فيلم Top Gun.

كان الجديد في هذا الفيلم مزجه بين معارك جوية مُذهلة، وموسيقى تصويرية إيقاعية، وتقديم صورة الشاب الوسيم الذي قام بدوره الممثل توم كروز Tom Cruise الذي يُضحي بحياته الطبيعية من أجل بلاده.

وكانت نتيجة هذا الفيلم زيادة التجنيد بنسبة ٥٠٠٪ لدرجة أنه تم وضع أكشاك أمام قاعات السينما لتلقي طلبات الراغبين في الالتحاق بالجيش، وأصبح هذا الفيلم بداية لمئات الأفلام الحربية من كافة دول العالم، لدرجة أنه هناك قِسمًا خاصًا في الجيوش لإعداد هذه الأفلام، وغيَّر من صورة الطيار الأمريكي المشوهة، بعد أن كان سببًا في إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما، وأصبح الطيار البطل الوديع المُنقذ.

القصة السابقة توضح لنا ما يمكن تسميته بالتضخيم من القدرات الذاتية، والذي يهدف لخلق صورة ذهنية لدى الأعداء بأنه يواجه مُنافس لا يُهزم، وهو ما تُمارسه الكثير من الدول والمؤسسات وحتى الأفراد على كل المستويات، ويستغلون في ذلك كل مميزاتهم وقدراتهم حتى لو كانت بسيطة.

ولكن قد يفاجأ البعض أن أكثر من استخدم هذا الأسلوب هو الشيطان نفسه، واستغله لأغراضه السيئة، ليس فقط بصفته رئيس هذا العالم، لكن لأنه من أوائل مخلوقات الله.

أصل الشيطان:

الشيطان ليس مجرد قوة أو فكرة أو تأثير، ولكنه شخص روحي حقيقي في العالم غير المنظور، وهو مخلوق عاقل وحُر الإرادة وخالد.

وجدير بالذكر أن الله لم يخلق الشيطان شيطانًا، لكنه «الْكَرُوبُ الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ» (حزقيال٢٨: ١٤)، والكروب (جمعها كروبيم) هم طبقة سامية من الملائكة، ويختصون بأعمال البر والقضاء بحسب أوامر الله، وكان للشيطان الكثير من الصفات البديعة فهو «زُهرة بنت الصبح»، ولديه إمكانيات جبارة فهو «قَاهِرَ الأُمَمِ» (إشعياء١٤: ١٢)، لدرجة أنه مُدِح: «أَنْتَ خَاتِمُ الْكَمَالِ، مَلآنٌ حِكْمَةً وَكَامِلُ الْجَمَالِ» (حزقيال٢٨: ١٢).

واستمر هذا الوضع حتى قال هذا الكائن: «أَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ. أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ ... أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيِّ» (إشعياء١٤: ١٣- ١٤)، وعلى قدر ارتفاع الشيطان على قدر سقوطه، فقال له الله: «بِكَثْرَةِ تِجَارَتِكَ مَلأُوا جَوْفَكَ ظُلْمًا فَأَخْطَأْتَ. فَأَطْرَحُكَ مِنْ جَبَلِ اللهِ وَأُبِيدُكَ أَيُّهَا الْكَرُوبُ الْمُظَلِّلُ ... قَدِ ارْتَفَعَ قَلْبُكَ لِبَهْجَتِكَ ... سَأَطْرَحُكَ إِلَى الأَرْضِ، وَأَجْعَلُكَ أَمَامَ الْمُلُوكِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْكَ ... وَأُصَيِّرُكَ رَمَادًا عَلَى الأَرْضِ» (حزقيال٢٨: ١٦- ١٨).

حيلة الشيطان:

ولكي يعوِّض الشيطان هذا الانهيار الرهيب في مقامه، لم يكتفِ بكونه عدوًا للخير وفاسدًا لخليقة الله ومُعطلاً لمقاصد ملكوته، مستعينًا بذكائه وقوته التي أُعطيت له من الله عندما خُلِق، وأيضًا رئاسته لمملكة ضخمة ومُنظَّمة. لكنه سعى لتضخيم قدراته في أذهان البشر، وخلق صورة ذهنية كاذبة أنه غير محدود، للدرجة التي جعلت البشر مرعوبين منه؛ فيتحاشون محاربته ويخافون عصيانه، بل والبعض عبدوه من فرط قوته الدعائية.

لكن شكرًا لله من أجل كتابه المقدس الذي فضح لنا هذه الحيلة وغيرها، وأظهر لنا أن إبليس محدود القدرات، فهو عاجز عن الإيذاء أمام حماية الله لعبيده، كما اعترف لله عن أيوب: «أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟» (أيوب١: ١٠).

وحتى لو سمح الله بتجربة الشيطان للمؤمن فيضع له حدًا لها في الشدة، كما فعل الله مع أيوب أيضًا، فقال الرب للشيطان: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ» (أيوب١: ١٢)، وأيضًا يضع الله حدًا في زمن التجربة كما قال الرب: «هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضًا مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤيا٢: ١٠).

والشيطان محدود العِلم، صحيح أنه يتوقع جيدًا بسبب خبرته آلاف السنين مع ملايين البشر، لكنه لا يعلم المستقبل، ولا يتحكم فيه، وإلا كان غيَّر مصيره ومنع هزيمته المُنكرة في الصليب، بل بالعكس الله هو من يكشف خطط وأفكار ومكائد الشيطان لنا «لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَه» (كورنثوس الثانية٢: ١١).

ودليل على هذا الأمر هو ما فعله الرب يسوع مع بطرس، عندما أفصح له عن نية الشيطان الدفينة ضده «وَقَالَ الرَّبُّ: سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا٢٢: ٣١، ٣٢).

وليس هذا فقط، ولكن إبليس محدود الزمن، فبإمكان المؤمنين النُصرة عليه في المسيح «فَاخْضَعُوا ِللهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يعقوب٤: ٧)، وهو من أحلى المشاهد للمؤمنين وهم يرون عدوهم يفر -ولو مؤقتًا – منهم، أما المشهد الكامل نقرأه في سفر الرؤيا «وَإِبْلِيسُ الَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ وَالْكِبْرِيتِ، حَيْثُ الْوَحْشُ وَالنَّبِيُّ الْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَارًا وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤيا٢٠: ١٠).

عزيزي القارئ ... أكبر دليل على محدودية قدرات الشيطان، هو وجودنا على قيد الحياة حتى هذه اللحظة، وتمتعنا ببركات وحماية الله لنا، فهو الرادع الحقيقي لإبليس وأعوانه، فدعنا نعمل حسابًا له، ولكن لا نخاف منه، نحترمه، ولكن لا ننحني أمامه، نقاومه ولا ننخدع بدعايته المُزيفة عن نفسه، ولنا هذا الوعد الغالي «وَإِلهُ السَّلاَمِ سَيَسْحَقُ الشَّيْطَانَ تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ سَرِيعًا» (رومية١٦: ٢٠).