الموقعة الثانية

وعودة لسؤالنا من هم الأعداء، سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني؟ سنبلط الحوروني - وربما كان موآبيًا من حورونايم- ومن ضمن ما يعنيه اسمه "كراهية في السر"، هو العدو الذي يسوءه مساءة عظيمة أن تستمتع بأي خير. أما طوبيا، فهو عبد عموني عُمِلَ له مخدعًا عظيمًا داخل الهيكل! والسؤال المهم هو: كيف توغل هؤلاء الأعداء وسط شعب الله بهذه الكيفية بالرغم من وجود الوصية: «لاَ يَدْخُلْ عَمُّونِيٌّ وَلاَ مُوآبِيٌّ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ…» (تثنية٢٣: ٣)، «وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بِنْتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنْتَهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ» (تثنية٧: ٣)!

والجواب هو أن شعب الله هم مَن سمحوا لهم بذلك، حتى أن ألياشيب الكاهن العظيم صاهرَ العدوَين كليهما! «وَقَبْلَ هذَا كَانَ أَلْيَاشِيبُ الْكَاهِنُ الْمُقَامُ عَلَى مِخْدَعِ بَيْتِ إِلهِنَا قَرَابَةُ طُوبِيَّا. وَكَانَ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي يُويَادَاعَ بْنِ أَلْيَاشِيبَ الْكَاهِنِ الْعَظِيمِ صِهْرًا لِسَنْبَلَّطَ الْحُورُونِيِّ» (نحميا١٣: ٤، ٢٨). وأيضًا، «لأَنَّ كَثِيرِينَ فِي يَهُوذَا كَانُوا أَصْحَابَ حِلْفٍ لَهُ (لطوبيا) لأَنَّهُ صِهْرُ شَكَنْيَا بْنِ آرَحَ، وَيَهُوحَانَانُ ابْنُهُ أَخَذَ بِنْتَ مَشُلاَّمَ بْنِ بَرَخْيَا» (نحميا٦: ١٨).

تبدأ هذه الموقعة بالعبارة التي بدأت بها الموقعة السابقة - وكما ستبدأ كل المواقع اللاحقة - «وَلَمَّا سَمِعَ» فالعدو في يقظةٍ تامةٍ من أمره، وآذانه مرهفة السمع لكل ما يحدث، ولديه ردة فعل لكل ما يسمع، الأمر الذي يستوجب منّا حياة السهر والاستعداد الدائم. «وَلَمَّا سَمِعَ سَنْبَلَّطُ الْحُورُونِيُّ وَطُوبِيَّا الْعَبْدُ الْعَمُّونِيُّ وَجَشَمٌ الْعَرَبِيُّ هَزَأُوا بِنَا وَاحْتَقَرُونَا، وَقَالُوا: مَا هذَا الأَمْرُ الَّذِي أَنْتُمْ عَامِلُونَ؟ أَعَلَى الْمَلِكِ تَتَمَرَّدُونَ؟» (نحميا٢: ١٩)

سمع الأعداء بأن نحميا قد شدَّد آيادي آخرين معه للخير، وها هم على وشك البدء بالعمل، وعندها تحولت الكراهية في السر إلى سخرية وافتراء في العلن. وهنا لزمَ الردّ من نحميا: «إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ نَصِيبٌ وَلاَ حَقٌّ وَلاَ ذِكْرٌ فِي أُورُشَلِيمَ» (نحميا٢: ٢٠)، كان ممكنًا لنحميا أن يدفع عنه اتهام العدو لهم بالتمرد على الملك، بأن يتفاخر بالرسائل التي أعطاها له الملك، لكنه فضّل بالحري أن يفتخر بالنجاح الذي أعطاه لهم إله السماء.

ومع أول ردّ من نحميا الأعداء، تتضح لنا حقيقة هامة، وهي أن هناك فريقين لا ثالث لهما: “نَحْنُ، وأَنْتُمْ”! وهذان الفريقان لا يمكن لهما أن يجتمعا أو يتفقا! وهو الغرض من بناء السور في المقام الأول. فيعلن نحميا: إننا نعلم مَن نحن، فنحن وإن كنَّا عبيدًا، لكننا عبيدُ لإله السماء، وأما أنتم فلستم إلا مُدَّعين.

صديقي، ربما كل ما عليك فعله لتنتصر في بعض المواقع هو – فقط - أن تذكر «مَنْ أَنْتَ؟»، وابن مَنْ أَنْتَ؟»، و«لمن أَنْتَ؟»، وعندها ستأخذ الموقف الصحيح الذي يتناسب مع هويتك الحقيقية.

الموقعة الثالثة

وإذ استمر العمل، تحول استياء الأعداء إلى هُزء وافتراء مع غضب وغيظ شديد. وبلهجة متصاعدة، قام سنبلط بطرح أسئلة استنكارية خمسة على الملأ. «وَلَمَّا سَمِعَ سَنْبَلَّطُ أَنَّنَا آخِذُونَ فِي بِنَاءِ السُّورِ غَضِبَ وَاغْتَاظَ كَثِيرًا، وَهَزَأَ بِالْيَهُودِ. وَتَكَلَّمَ أَمَامَ إِخْوَتِهِ وَجَيْشِ السَّامِرَةِ وَقَالَ: "مَاذَا يَعْمَلُ الْيَهُودُ الضُّعَفَاءُ؟ هَلْ يَتْرُكُونَهُمْ؟ هَلْ يَذْبَحُونَ؟ هَلْ يُكْمِلُونَ فِي يَوْمٍ؟ هَلْ يُحْيُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ كُوَمِ التُّرَابِ وَهِيَ مُحْرَقَةٌ؟"» (نحميا ٤: ١- ٣)

علام يقوى هؤلاء القلة الضعفاء؟ وهل ستتركهم الشعوب المجاورة يستكملون العمل؟ وهل سيتوَّج عملهم بعبادة الرب إلههم؟ وهل يظنون أن هذا العمل الضخم سيُنجَز في يومٍ واحدٍ! وهل تحيا الحجارة المحروقة من تحت أكوام التراب!

لقد طرح العدو سيلًا متعاقبًا من الأسئلة، وكأنه يهيل ترابًا على رؤوس الشعب، كما لو كانت أكوام التراب الفعلية غير كافية! ولك أن تتخيّل - عزيزي- حالة الشعب النفسية والذهنية بعد سماعهم لهذه الكلمات! وكما قال أحدهم “وإن كان العدو لا يستطيع أن يفترسنا بأنيابه، فهو من حين لآخر يهيل علينا التراب بذَيله”.

وفي دهاء الثعلب، ردَّ طوبيا على أسئلة سنبلط بعبارة قصيرة جاءت كقطعة الدومينو الأخيرة، والتي ما أن توضَع، حتى يبدأ كل ما قبلها بالانهيار (Domino Effect)

«وَكَانَ طُوبِيَّا الْعَمُّونِيُّ بِجَانِبِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مَا يَبْنُونَهُ إِذَا صَعِدَ ثَعْلَبٌ فَإِنَّهُ يَهْدِمُ حِجَارَةَ حَائِطِهِمِ». فالخلاصة أن الأمر كله يحتاج – فقط - إلى ثعلب !ما أبشعها موقعة تلك التي بدا فيها شعب الله وكأنه “ملطشة”، أو بتعبير الكتاب «صاروا مَأْكَلاً» لكن أتعرف عزيزي ما المشكلة في هذه الموقعة؟

صحيح أن العدو يهوِّل الأمور قاصدًا تفشيلنا وإحباطنا، وربما أغلب ما يقوله كذبًا وافتراءً، لكن المشكلة يا صديقي أن بعضًا مما يقوله العدو عنّا صحيح بكل أسف! فالحقيقة أن الشعب كانوا ضعفاء بالفعل، لا أمام الأعداء وضخامة العمل فقط، لكن أمام أنفسهم أيضًا، إذ كانوا قد فقدوا هويتهم لطول مدة بُعدهم عن إلههم… لقد أرسل الله إليهم «مُبَكِّرًا كُلَّ يَوْمٍ، وَمُرْسِلاً، وَمُكَلِّمًا، وَمُعَلِّمًا، وَمُشْهِدًا» … لقد تكلم إليهم الله في راحتهم، فقالوا لا نسمع! وإذ ذاك، تفكرّ الشعب في كلمات العدو، ولاحقًا أخذها من فمه وقالها كما هي! «وَقَالَ يَهُوذَا: قَدْ ضَعُفَتْ قُوَّةُ الْحَمَّالِينَ، وَالتُّرَابُ كَثِيرٌ، وَنَحْنُ لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَبْنِيَ السُّورَ» (نحميا٤: ١٠). وتذكرّنا العبارة «وَقَالَ يَهُوذَا» بعبارة مماثلة، وَقَالَتْ صِهْيَوْنُ، وَقَالَتْ صِهْيَوْنُ: «قَدْ تَرَكَنِي الرَّبُّ، وَسَيِّدِي نَسِيَنِي». لكن أتعرف ردّ الرب على هذا الكلام؟ «أَسْوَارُكِ أَمَامِي دَائِمًا!» (إشعياء٤٩: ١٤- ١٦). فحتى وإن سقطت أسوارنا أمام أعيننا، فأسوارنا لا تسقط من أمام عينيّ الله أبدًا!

ترى ماذا عنّا، وراء مَن نردّد كلماتنا؟!

أما نحميا، فلقد استمر على نفس نهجه في حياة الصلاة بينما كان يتابع العمل، فسكب شكواه قدام الله مُجدَّدُا: «اسْمَعْ يَا إِلهَنَا، لأَنَّنَا قَدْ صِرْنَا احْتِقَارًا ... فَبَنَيْنَا السُّورَ وَاتَّصَلَ كُلُّ السُّورِ إِلَى نِصْفِهِ وَكَانَ لِلشَّعْبِ قَلْبٌ فِي الْعَمَلِ».

عندما يعيّرك العدو بضعفك الشخصي، ويحبطك بجسامة مسؤولياتك، لا تفشل أيها الصديق، بل صل صَلاَةِ الْمُضْطَرِّ، فتختبر قوة الرب التي لحسابك.

قوة في الضعف فاضت منك يا ربي الحبيب
يا رجائي أنت تشفي حينما القلب يخيب،
يا مسيحي يا حياتي، يا شفيعي كل آن
كلما خارت قواي منك عوني والأمان.