ما هذا لمثل هؤلاء

(يوحنا٩:٦)

واحدة من أصعب التحديات في يومنا هذا هو قلة الإمكانيات أمام كثرة الاحتياجات! هذه ليست معاناة الأفراد أو الأسر فقط، بل حتى الدول العظمى أيضًا تعاني اليوم من ندرة الموارد وزيادة المتطلبات. الكل ينظر إلى ما عنده في مقابل المطلوب، ويردد ذات القول الذي قاله أندراوس: «وَلكِنْ مَا هذَا لِمِثْلِ هؤُلاَءِ؟».

أولًا: دعونا نتعرف عن المناسبة التي قيلت فيها هذه العبارة:

كان الجموع يتبعون ربنا يسوع ليسمعوه، ومكثوا معه وقتًا طويلًا. طلب السيد من التلاميذ أن يعطوا الجموع شيئًا ليأكلوا. وكان هذا الأمر صادمًا، بل ومستحيلًا للتلاميذ، إذ كيف لهم أطعام هذه الآلاف؟ وقال واحدٌ من التلاميذ، أسمه أندراوس: «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟» (يوحنا٩:٦).

ثانيًا: نظرة العيان لظروف الزمان

أسمح لي قارئي العزيز، قُبيل أن نستطرد في قصتنا هذه، ألا نلوم أندراوس ولا التلاميذ؛ فهذه هي نظرتنا جميعًا. فنحن جميعًا محكمون بالحواس الطبيعية التي لا ترى إلا ما حولها فحسب. فعندما ذهب رجل الله إيليا إلى أرملة صرفه صيدا، وطلب منها شيئًا ليأكله قالت له: «لَيْسَتْ عِنْدِي كَعْكَةٌ، وَلَكِنْ مِلْءُ كَفٍّ مِنَ الدَّقِيقِ فِي الْكُوَّارِ، وَقَلِيلٌ مِنَ الزَّيْتِ فِي الْكُوزِ، وَهَئَنَذَا أَقُشُّ عُودَيْنِ لِآتِيَ وَأَعْمَلَهُ لِي وَلاِبْنِي لِنَأْكُلَهُ ثُمَّ نَمُوتُ» (ملوك الأول١٢:١٧). لاحظ معي كلماتها التي تحمل اليأس والقنوط رغم أن معها رجل الله، الذي معه سلطان الله.

وأتذكَّر مرة أخرى في أيام أليشع النبي، أنه كانت هناك مجاعة في الأرض، وذهب رجل الله ليبشر بقدوم الخير في الغد. وللأسف سخر منه جندي الملك قائلًا: «هُوَذَا الرَّبُّ يَصْنَعُ كُوًى فِي السَّمَاءِ! هَلْ يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ؟» (ملوك الثاني ٢:٧). ولعدم إيمانه وسخريته مات الجندي وداسه الشعب، حسب قول رجل الله له، بأنه سيرى بعينيه الخير، ولكن لا يأكل منه!!

نعم أن نظرة العيان، وأن كانت منطقية وتتماشي مع العقل البشري، لكنها متعبة وسبب قلق لأصحابها، فكلمة الله تعلمنا «لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَيَان» (كورنثوس الثانية٧:٥)

ثالثًا: إمكانيات الله ننالها بالإيمان

كم نشكر الله لأجل ما سجَّله لنا الوحي في الكتاب المقدس «لأن كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ، كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا» (رومية٤:١٥). ومن خلال الكلمة المقدسة نتعلم ماذا فعل الله لشعبه وسط الأزمات المادية الطاحنة، وكيف تصرف الأتقياء بالإيمان؛ فنالوا بركة الرب وتمتعوا بما قاله المختبر «اتَّقُوا الرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيه» (مزمور٩:٣٤).

نعود معًا إلى التحدي الذي قاله أندراوس، وكيف تدخَّل المسيح في تلك الأزمة. فلقد طلب الرب يسوع من التلاميذ أن يقدِّموا له القليل الذي عندهم، الأرغفة الخمسة والسمكتين فقال لهم: «ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا... ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ لْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ» (متى١٨:١٤، ١٩).

وما أروع النتائج عندما يثق الإيمان في ربنا يسوع، فمهما كانت الإمكانيات ضئيلة فهو الذي قال «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ» (لوقا٣٠:١٢). لقد بارك ربنا يسوع الأرغفة الخمسة والسمكتين، وأعطى التلاميذ وهم بدورهم وزعوا على الجمع والنتيجة «فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً» (متى٢٠:١٤).

وما أكثر معجزات الإيمان والثقة في إمكانيات الله، ولا سيما وسط تحديات الاحتياجات! فقديما عال الله إيليا وأرملة صرفه صيدا لعدة سنوات بقليل من الزيت وشيئًا لا يُذكر من الدقيق «وَأَكَلَتْ هِيَ وَهُوَ وَبَيْتُهَا أَيَّامًا. كُوَّارُ الدَّقِيقِ لَمْ يَفْرُغْ، وَكُوزُ الزَّيْتِ لَمْ يَنْقُصْ «(ملوك الأول١٥:١٧).

إخوتي الأحباء؛ أمام تحديات مُلِحة وشديدة من الأعواز المادية، دعونا نثق في محبة وعناية قلب الله أبونا، الذي أعطانا أغلى ما عنده: ربنا يسوع المسيح «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ» (رومية٣٢:٨). إن الوعود الإلهية لم تكن لزمن مضي وولى، بل هي لنا اليوم وغدًا، لنثق فيمن قال «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْر»ِ، ولنعِش مطمئنين واثقين مرنمين «لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ» (عبرانيين٥:١٣).

لنطمئن مستريحين إذ لنا هذا الوعد الثمين المتين «فَيَمْلأُ إِلَهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي١٩:٤).