الموقعة الخامسة

«وَلَمَّا سَمِعَ سَنْبَلَّطُ وَطُوبِيَّا وَجَشَمٌ الْعَرَبِيُّ وَبَقِيَّةُ أَعْدَائِنَا أَنِّي قَدْ بَنَيْتُ السُّورَ وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ ثُغْرَةٌ، عَلَى أَنِّي لَمْ أَكُنْ إِلَى ذلِكَ الْوَقْتِ قَدْ أَقَمْتُ مَصَارِيعَ لِلأَبْوَابِ، أَرْسَلَ سَنْبَلَّطُ وَجَشَمٌ إِلَيَّ قَائِلَيْنِ: “هَلُمَّ نَجْتَمِعُ مَعًا فِي الْقُرَى فِي بُقْعَةِ أُونُو”. وَكَانَا يُفَكِّرَانِ أَنْ يَعْمَلاَ بِي شَرًّا.» (نحميا٦: ١، ٢)

ها قد شارف العمل على الانتهاء، فهل يأس العدو؟ بالعكس، لقد صعَّد الهجوم وطوَّر القتال. فقد تكون هذه الموقعة هي الأشرس، لا لطول مدتها فقط، بل لتغيُّر هيئة العدو فيها من الأسد إلى الحية، ثم إلى الحرباء!

كذلك غيَّر العدو استراتجيته من الهجوم على اليهود عامةً إلى الهجوم على شخص واحد هو نحميا. ذلك لعلمه أن إبعاده عن الطريق، يُغنيه مشقة زحزحة جميع الواقفين خلفه. ألا يجعلنا هذا الأمر نسهر متضرعين لأجل كل شخص في موضع مسؤولية! ولكن إلى أين أراد العدو أن يستدرج نحميا؟

الحقيقة التي لا بد أن تعيها جيدًا يا صديقي، هي أن العدو يعرف الموقع المفضَّل لكلٍ منا! فاختار العدو أن يجتمع بنحميا فِي الْقُرَى فِي بُقْعَةِ أُونُو. وكأنه يقول له: “إنني أشفق عليك من ثقل عدَّة الحرب وأدوات البناء التي حملتها لوقت طويل! والآن أنت بحاجة لقليل من الراحة والاسترخاء في هذه القرى الساحلية”

ثم في بقعة. وتذكّرنا هذه الكلمة بتلك البقعة المُضيئة التي تُصاحب الشخصية الرئيسية بالمسرح فتشّد العيون نحوه. فلقد أراد العدو سحبه - بمَن يتبعه - إلى بقعة من صُنعه.

وأود أن أذكّرك عزيزي أن لكل منّا بقعته الخاصة التي يسهل على العدو استدراجه إليها والانفراد به هناك حيث يسدّد أشرس لكماته في أضعف مناطقنا فنستسلم إذ تنهار كل دفاعاتنا! فلقد كانت بقعة حواء: محيط الشجرة، وبقعة لوط: مدن الدائرة، وبقعة شمشون: ركبتيّ دليلة، وبقعة داود: سطح بيته! وبالطبع لا يُشتَرط أن تكون البقعة مكانية حرفية، بل غالبًا ما تكون بقعة فكرية، فالفكر هو ساحة المعركة.

أما عن البقعة التي فصّلها العدو لنحميا، فكانت هي بقعة أونو، وأونو تعني: قوة أو نشاط، وبناها شامر: أي حارس، ابن الفعل: أي عمل الله، الله قد فعل، من سبط بنيامين، ابن اليد اليمين! (١أخبار٨: ١٢) أراك تبتسم الآن... فهل فهمت اللعبة يا صديقي؟ أونو هي البقعة الأمثل لنحميا رجل الحراسة والعمل!

وأرسلَ العدو الرسالة لنحميا لكي يأتي ويتفاوض معه في هذا المكان بإلحاحٍ شديد أربع مرات. فواحدة من أسماء إبليس هي بعل زبوب أو إله الذباب (الذي كلما ذُبَّ آب - أي كلما حاولت إبعاده، يعود مرة أخرى).

ترى ماذا فعل نحميا في هذه الموقعة الضارية؟ «فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِمَا رُسُلاً قَائِلاً: إِنِّي أَنَا عَامِلٌ عَمَلاً عَظِيمًا فَلاَ أَقْدِرُ أَنْ أَنْزِلَ. لِمَاذَا يَبْطُلُ الْعَمَلُ بَيْنَمَا أَتْرُكُهُ وَأَنْزِلُ إِلَيْكُمَا؟» (نحميا٦: ٣). لقد علم نحميا أن كثيرين يمكنهم القيام بالعمل الذي تركه بقصر الملك، بينما سيُبطَل عمل الله العظيم إن تركه. وعلم أيضًا أن مقارنة عمل الله بأي عمل آخر، يُعَدُّ نزولا، فاتخذ قراره «لاَ أَقْدُرُ أَنْ أَنْزِلَ!» وآه، كم كان النزول سهلًا على شمشون، فكم مرة «نَزَلَ شَمْشُونُ».

وعند ذلك غيَّر العدو أسلوبه من حية إلى أسد! ذلك بإرساله رسالة خامسة مفتوحة، مٌتاحة ليقرأها الجميع. (نحميا٦: ٦، ٧). ورغم افتراء العدو وتهديده بتصعيد الأمر للملك، ظل نحميا على موقفه ثابتًا كالصخر. وبينما قال العدو: «قَدِ ارْتَخَتْ أَيْدِيهِمْ عَنِ الْعَمَلِ فَلاَ يُعْمَلُ»، صلى نحميا كعادته: «فَالآنَ يَا إِلهِي شَدِّدْ يَدَيَّ».

ترى مع مَن تحب أن تصلي هذه الصلاة؟ مع نحميا في المكان الصحيح أم مع شمشون في المكان الخاطئ!

وبعد فشل العدو خمس مرات في استدراج نحميا للإيقاع به في بقعة أونو، نراه يجرِّب تغيير المكان! «لِنَجْتَمِعْ إِلَى بَيْتِ اللهِ إِلَى وَسَطِ الْهَيْكَلِ وَنُقْفِلْ أَبْوَابَ الْهَيْكَلِ، لأَنَّهُمْ يَأْتُونَ لِيَقْتُلُوكَ. فِي اللَّيْلِ يَأْتُونَ لِيَقْتُلُوكَ» كذلك اختلف مُرسل الرسالة أيضًا من كونه عدوًا ظاهرًا إلى شخص يُدعى شَمْعِيَا بْنِ دَلاَيَا بْنِ مَهِيطَبْئِيل، والذي يرتبط معنى اسمه كاملًا باسم يهوه: يهوه يسمع، يهوه يرفع، معونات الله! وتظاهر بحبس نفسه خوفًا من الأعداء، ودعا نحميا ليختبئ معه داخل الهيكل.

إنها ذات الخطة، لكن كأن العدو هنا كالحرباء التي تُغيّر لونها فلا يُكتَشف وجودها. هكذا يعمل العدو أحيانًا مُرتديًا قفازًا، فلا نستطيع اكتشاف بصماته!

وهنا يردّ نحميا بسؤالين استنكاريين يٌظهرا معرفته التامة بهويته! «فَقُلْتُ: أَرَجُلٌ مِثْلِي يَهْرُبُ؟ وَمَنْ مِثْلِي يَدْخُلُ الْهَيْكَلَ فَيَحْيَا؟ لاَ أَدْخُلُ!» (نحميا٦: ١١) فلقد عرف نحميا مكانته ومَن هو، إنه ليس أجيرًا يهرب وقت الخطر، لكنه عرف أيضًا أنه ليس كاهنًا، فلا يحق له دخول الهيكل في أي وقت

ولاحقًا فهم نحميا أن وراء شمعيا هذا يقف الأعداء سنبلط وطوبيا «لأَجْلِ هذَا قَدِ اسْتُؤْجِرَ لِكَيْ أَخَافَ وَأَفْعَلَ هكَذَا وَأُخْطِئَ، فَيَكُونَ لَهُمَا خَبَرٌ رَدِيءٌ لِكَيْ يُعَيِّرَانِي» (نحميا٦: ١٣)  خلاصة هذه الموقعة يا عزيزي، أنّ واحدة من مخططات العدو هي محاولاته جرجرتنا عن المكان الصحيح!

وإن كنت للآن لا تدرك مدى خطورة هذه الخطة، فاسأل أمك - وأم كل حي - كيف استدرجها العدو وتحدَّث معها بمعسول الكلام وكأنه يريد خيرها أكثر من الله نفسه! وإذ أطالت معه الحوار، وصل لمبتغاه منها. وهو ما يحدث معنا عندما نعطيه الفرصة للتفاوض معنا، فتألف آذاننا صوت فحيحه، وشيئًا فشيئًا نختبئ عند سماع صوت الله! ربما تقول: “إنها المرأة، الإناء الأضعف”! اذهب إذن واسأل الرجل، شمشون! تأمَّله وهو مقلوع العينين يطحن كالثور في بيت سجنه بسبب ابتعاده عن المكان الصحيح حيث كان روح الرب يحركه. «إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ.» (١ كورنثوس١٠: ١٢)

أجنادهم تحيط بي
تروم إرجاعي
عن مسلكي كأنني
شاة بلا راعي،
وإن تزمجر العدى
ضدي في أي آن
ليرهبوني فأنا
بالرب في أمان
ولي سلاح كامل
به محاربٌ،
جنديٌ ابنٌ وارثٌ
بالربِّ غالبٌ