نعرف جميعًا قصة مجنون كورة الجدريين الذي ذهب إليه الرب خصيصًا لينقذه من عبودية الشيطان القاسية، هذه القصة الرائعة مذكورة في متى ٨؛ مرقس ٥؛ لوقا ٨. وفي هذه القصة نلتقي بثلاث نظرات مختلفة لهذا الإنسان المسكين: نظرة الناس له، ونظرته لنفسه، ونظرة الرب له.
أولاً نظرة الناس له
«كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ، لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيرًا بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ». مسكنه في القبور: أعجب وأغرب مكان يمكن أن يختاره أي إنسان ليسكن فيه، حيث يخاف البشر أن يكونوا هناك؛ فمن يحتمل أن يسكن بين الموتى؟ فمن الطبيعي ألا يقبل الأحياء وضعًا كهذا. لكن هذا الإنسان لم يكن كبقية البشر - من وجهة نظرهم - وكما يقولون باللغة الدارجة كانت نظرتهم له أن «قلبه ميت»
لم يقدر أحد أن يربطه: فهو حُر، طليق، يفعل ما يحلو له. لا قوانين ولا مبادئ ولا تقاليد تحكمه. هو خارج كل هذا ولم يقدر أحد أن يربطه أو يتحكم به. الجميع يهابونه ويخافون منه. فقد قطع السلاسل وكسر القيود.
لم يقدر أحد أن يُذلله: هو قوي، ومخيف، وخطير. هكذا يراه الناس من الخارج. وهكذا ينظر الناس لكل إنسان يعيش في الخطية والشر والنجاسة.
ثانيًا نظرته لنفسه
«وَكَانَ دَائِمًا لَيْلاً وَنَهَارًا فِي الْجِبَالِ وَفِي الْقُبُورِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ». هكذا يعيش هذا الإنسان مع نفسه: دائمًا ليلاً ونهارًا: ما يفعله ليس موسميًا، ولا تحت الضغط وعند مروره بظروف طارئة. إنما هو يعيش في هذا ولا يتوقف عنه. هو دائم القيام به ليس مرة واحدة يوميًا. إنما ليلاً ونهارًا.
هكذا يفعل كل من يعيش في الشر ويقضي حياته عبدًا لإبليس؛ هكذا كانت امرأة فوطيفار التي كانت يومًا فيومًا تحاول أن تضغط على يوسف لفعل الشر، جليات أيضًا كان يهدد شعب الله صباحًا ومساءً. فالإنسان الخاطئ يعيش كل أيامه ليلاً ونهارًا في شر ونجاسة وكما يقول عنهم الكتاب: «الْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُونَ بِالْغِشِّ» (مزمور ٣٨: ١٢)، هم أهل الشر «الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ بِشُرُورٍ فِي قُلُوبِهِمْ. الْيَوْمَ كُلَّهُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِتَالِ» (مزمور ١٤٠: ٢).
في الجبال وفي القبور: وكأنه إنسان ميت، فالقبور والجبال أماكن مهجورة لا يسكنها الأحياء. هو يعيش – عيشة بطعم موت – هو لا يعيش مع البشر ولا كبقية البشر. ميت وهو حي. وهذا هو تقرير الكتاب عن كل خاطئ يعيش بعيدًا عن الله: «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا» (أفسس ٢: ١).
يصيح: وهناك أسباب كثيرة لهذا الصياح؛ إنه صياح الاضطراب الداخلي، صياح الخوف، صياح عدم الشعور بالأمان، صياح العبودية، صياح الضمير والشعور بالذنب، صياح من لا يعرف طريقه.
كما أنه صياح الشر، والعنف، والتحدي، والجبروت. إنه يصيح وربما لا يعرف لماذا، هو يصيح بلا تفسير. فالخاطيء يتعامل بعنف وعصبية دون سبب واضح. يؤذي أقرب الناس إليه دون أن يكون هناك سببًا لهذا. فما الخطأ الذي ارتكبه هابيل حتى يقوم عليه قايين ويقتله؟ وماذا فعل داود حتى يُطارده شاول محاولاً قتله؟ وما الذي فعله نابوت اليزرعيلي حتى يخرجونه خارج المدينة ويرجموه بحجارة حتى يموت (١ملوك ٢١: ١٣)؟ ألا يكشف لنا كل هذا شر الإنسان وقلبه الفاسد!
يُجرَّح نفسه: هذا القوي الجبار أمام الناس، من لا يردعه أحد ولا يقدر أحد أن يُذلله؛ يُجرح نفسه بالحجارة. يؤذي نفسه كل يوم. تصيبه الجروح النفسية والجسدية دون شعور. الشيطان يُخدَّره تمامًا فلا يرى ما يفعله بنفسه. يموت كل يوم وهو لا يشعر.
العجيب هنا أن الشيطان – الروح النجس – هو من يقف خلف كل هذا، لكن الخاطئ في غبائه الشديد يفعل ما يمليه عليه الشيطان وكأنه صادر منه. يُجرح نفسه لكن الحقيقة أن الشيطان من أقنعه بالأمر.
ثالثًا: نظرة الرب له
«قَالَ لَهُ: “اخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ”». يا لَروعة هذه النظرة العجيبة الحانية الرقيقة. المسيح يراه إنسانًا مُستعبَدًا للروح النجس. المسيح يرى حقيقته. فهو ليس جبارًا قويًا مخيفًا كما يراه الناس، ولا هو مُدمرًا ولا أمل فيه كما يرى نفسه. إنما هو إنسان لكن الشيطان استعبده واقتنصه وجعل منه مسخًا بشريًا لا حول له ولا قوة.
جاء المسيح ليعيد له إنسانيته، يعيد صياغته من جديد ليصير إنسانًا جديدًا جديرًا بالاحترام؛ ينظر له الناس ويتعجبون ويمجدون الله.
كلمة خاصة لكل مؤمن
رغم أن هذا الحديث يخص الخطاة، لكننا بكل أسف كثيرًا ما نكون مثل هذا المجنون، لا نعكس صورتنا الحقيقية، بل نكون على غير حقيقتنا. حينما يغزو الشيطان حياتنا ويزرع أمورًا شاذة وشريرة، ومع الوقت تنمو في حياتنا فإننا نتحول كما كان هذا المجنون. نؤذي أنفسنا ونجرح أنفسنا بالحجارة. ولا نكون في الوضع الصحيح أمام الله.
أدعوك أخي الفاضل أن تفكر في الأمر مصليًا، طالبًا من الرب أن ينزع من حياتك كل أمرٍ لا يُرضيه، وكل نبته زرعها الشيطان في حياتك. حتى تعيش حياتك بحسب مشيئته الصالحة.