كان الرب يسوع جالسًا في الهيكل، يُراقب الناس وهم يُلقون بأموالهم في الخزانة، وهو الوحيد الذي يحق له ذلك، لأنه «فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَانِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ» (أمثال١٥: ٣)، فرأى الأغنياء يرمون بمبالغ كبيرة، رنينها يطنّ في آذان السامعين. ثم جاءت أرملة فقيرة، وألقت بفلسين فقط لم يسمع طنينها أحد سوى الرب يسوع وحده. فنادى تلاميذه وقال لهم: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا» (مرقس١٢: ٤٣-٤٤).
وكان أحد المُرسَلين يتكلَّم عن تلك الحادثة في إحدى عظاته، وميَّز بين التبرّع والتضحية، فأشار إلى أن أولئك الأغنياء أعطوا تبرعات، ولكن تلك الأرملة ضَحِّت إذ أعطت من إعوازها. وعلَّق قائلاً:“ لا أدري إن كنت قد قمت - أنا وزوجتي – بتضحية في العطاء يومًا ما! لقد خطر ذلك في بالنا إذ قدَّمنا يومًا شيئًا من المال كنا قد ذخرناه لتنفيذ مشروع ما، ولكن لم يؤثر عطاؤنا مُطلقًا على حياتنا أو على عيشتنا. وأستطيع أن أقول بأننا لا نعرف معنى التضحية بعطائنا إذ كنا نُقدِّم تبرعات فقط!”
وإنني أُقدّر ما قاله ذلك المُرسَل في تمييزه وصدقه، وأتساءل كيف عليَّ أن أعمل لأساند الكنيسة في خدمتها وجهودها ومساعيها التبشيرية في العالم؟
دعونا نعود إلى تلك الأرملة التي أتت إلى صناديق العطاء، وحيدة. والأرملة تعطينا دائمًا الفكر بالحرمان من كل سَنَد أرضي وعائل طبيعي. ويصفها الكتاب بأنها فقيرة. على أن الفقر والحزن لم يفسدا قلب هذه المرأة، ولم تجف منها ينابيع الشكر لله، فهي لم تتخلَّ عن لذة العطاء لله، فذهبت إلى بيت الله بتقدمتها، وألقت في الصندوق الكبير فلسيها الصغيرين، ثم خرجت خالية الوفاض من كل الوسائل المنظورة للمعيشة والإعالة في المستقبل. لقد ألقت كل معيشتها، وفي الحقيقة أنها ألقت بنفسها على مراحم يهوه الذي أعطت له ما عندها، والذي هو: «قَاضِي الأَرَامِلِ» (مزمور٦٨: ٥؛ ١٤٦: ٩). ولقد برهنت هذه الأرملة بتقدمتها، ليس فقط على حبها العظيم للرب، ولكن أيضًا على ثقتها الكاملة في إلهها الذي في مقدوره أن يسدد أعوازها.
ولكن لماذا اهتم الروح القدس أن يقول: «أَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ»؟ (مرقس١٢: ٤٢)، ولماذا لم يكتفِ بأن يقول “أَلْقَتْ رُبْعًا”؟
لقد قصد الروح القدس أن يُبيِّن تكريس قلبها الكامل، فلو أنه كان عندها قطعة واحدة قيمتها رُبْع، لكان عليها إما أن تضع الكل، أو لا تضع شيئًا. لكن إذا كان لها قطعتان فأمامها فرصة الاحتفاظ بواحدة لمعيشتها. وبالحقيقة معظمنا يعتبره تكريسًا غير عادي أن يعطي الواحد لعمل الرب نصف ما يمتلك. لكن هذه الأرملة الفقيرة كان لها قلب كامل لله. إن تقدمتها المُجزّأة برهنت على قلبها غير المُجزّأ؛ هذا هو لُب الموضوع. إنها لم تحتفظ لنفسها بأي احتياطي بالمرة. لم تنظر إلى نفسها وما يلزمها قط، وأَلْقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لأجل ما يراه قلبها خاصًا بإلهها. ليت الرب يمنحنا شيئًا من هذه الروح.
وماذا يعلِّمنا درس الفلسين؟!
أولاً: يُذكّرنا أن عين الرب تُراقبنا عند العطاء: «وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ»: كانت عينا الرب على هذه الأرملة، وقد لاحظ ما فعلته. إنه يقدِّر كل ما يصدر من القلب، مهما كان صغيرًا جدًا، وهو يستعرض دوافعنا ومدى إمكانياتنا، وهو يقدِّر عطايانا عندما نُعطيها، ويُحدِّد قيمتها النسبية بدون خطأ.
ثانيًا: الرب لا ينظر إلى ما نُعطي، بل ينظر كيف نعطي: إنه يُلاحظ الكيفية، وليس الكمية. فذاك الذي جلس تجاه الخزانة «نَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ» (مرقس١٢: ٤١). وهنا تنفتح أعيننا على حقيقة ثانية خطيرة أن عين الرب تلاحظ كيف نُعطي. إن عيناه الفاحصتان ليست على كيس نقودنا، لكن على قلب كل مِنا. إنه يَزِن ليس المبلغ، لكن الدافع والمحرِّك والطاقة للعطاء «لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ» (٢كورنثوس٩: ٧)، ولأنه «مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ» (أعمال٢٠: ٣٥).
وفي رومية ١٢: ٨ يتكلَّم الرسول عن الكيفية التي يجب يؤدي بها العطاء، فيقول: «الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ». “السخاء” هنا معناه بساطة وسماحة القلب ونقاوة الدوافع ومخافة الله. إن كلمة الله فاحصة حقًا، فهي تحفظ من حب الظهور والمديح، ومن الدوافع الخاطئة والأغراض غير اللائقة، ومن الجهة الأخرى تحذرنا من أعذار التخلُّص الواهية مثل “ليست عندي فرصة مناسبة، فالتزاماتي كثيرة ولا أستطيع أن أعطي”.
ثالثًا: الله يحكم على قيمة العطاء لا بمقدار ما قُدِّم، بل بمقدار ما تبقَّى: كان هناك أغنياء كثيرون يلقون كثيرًا. لم يذكر الكتاب كم ألقوا. وكانت هناك أرملة فقيرة وألقت فلسين. ولكن كفة الأغنياء ارتفعت إلى فوق لأن الرب نظر إلى ما احتجزوه لأنفسهم بعد الذي ألقوه في الخزانة. ولم يكن ذلك في صالحهم، أما كفة هذه الأرملة فقد ثقلت لأنها ألقت الفلسين ولم تحتجز شيئًا. والله لا يرفض تقدمات الفقراء القليلة، ولكنه لا يُسرّ بتقدمات الأغنياء الشحيحة (ملاخي١: ١٣).
إن الاختبار العملي لنوع عطايانا هو أن يسأل الواحد نفسه: هل عطاياي لله تكلفني حقيقةً؟ أم أنني أعطي فقط القليل مما يتبقى بعد أن قمت بشراء كل ما أحتاجه؟ هل أنا أشعر بهذه العطية؟ أي، هل هذه العطية حقًا تؤثر في ميزانيتي؟ فإن لم يكن الجواب بالإيجاب، فينبغي أن أزيد عطائي.
رابعًا: أننا أحيانًا نطبِّق مدح الرب لعمل هذه الأرملة تطبيقًا خاطئًا: فبعض الأفراد يقولون إنهم يُعطون عطاءً بسيطًا، مجرد فلس، أقل مما كان ينبغي أن يُعطى، ويقولون إن الرب الذي مدح فلس الأرملة، لا بد أن يمدح عطيتهم القليلة. ولكنهم قبل أن يطالبوا بمديح الرب لهم، يجب أن يتذكروا أن المرأة لم تُعطِ واحدًا فقط من فلسيها، ولكن كليهما معًا، فهي لم تُعطِ“ نصف أموالها” مثل زكَّا، بل أعطت «كُلَّ مَعِيشَتِهَا»، فهي لم تقف عند حد العشور أو النصف، أو ما هو أكثر من النصف، إذ أعطت كل شيء دون تحفظ، أو اضطرار، أو شكوى، أو ضيق.
وأخيرًا: أسأل نفسي: هل أقوم بتبرعات ما، أم أنني أقوم حقًا بتضحيات كتلك الأرملة التي مدحها الرب؟ لهذا يجب علينا أن نفحص قلوبنا وأفكارنا ونوايانا، فهل نحن مستعدون لذلك؟ ولنتفكَّر في كم يساوي التكريس القلبي في موازين الأقداس، وكم هو مُسرّ لقلب الله، ولنتذكَّر أن إخلاصنا وتكريسنا إنما يُمتحنان ساعة العطاء ليس بمبلغ ما نعطي، بل بمبلغ ما نحجز لأجل أغراضنا الخاصة، وهذا تشجيع عظيم لمَن عنده القليل، ولكن عنده رغبة عظيمة في العطاء لله.