الموقعة السابعة والأخيرة
بوصولنا لهذه الموقعة نكون قد وصلنا لختام هذا الجزء المُبَارك من كلمة الله. وإن كنا نتلهف الوصول للحظات الانتصار، فدعونا لا ننسى أن هذه اللحظات ما هي إلا تتويج لسنوات من العمل الشاق! هكذا عمل نحميا جاهدًا - ولكنه عمل مع الله - في صدّ هجمات العدو من الخارج وإصلاح أمور شعبه من الداخل. وبينما قضى أقل من شهرين بقليل (٥٢ يومًا) في بناء سور المدينة بأكملها، فلقد قضى أكثر من أثني عشر عامًا ليعيد بناء حياة الشعب المنهدمة!
لقد عمل نحميا أفضل ما عنده لخير الملك وقت أن كان يخدمه، وكأن لسان حاله: “أحبك أيها الملك... لكن قلبي ليس معك!”. فما أن سمع بأخبار المدينة وشعبها، صلى وصام وناح، وهكذا وضع إلهه في قلبه العمل، فقام على الفور مُلقيًا تبر شوشن وذهبها على تراب أورشليم وحصاها، فكان القدير تبره وفضة أتعاب له.
وبينما بدأت رحى هذه الموقعة الأخيرة تدور، لم تبدأ وقائعها في ذلك الوقت، إنما قبل ذلك بكثير! إذ لم تكن هذه الموقعة سوى لدغة الحية الأخيرة، والتي فيها غرزت أنيابها عميقًا، تاركة العنان لسمّها الفتّاك بالتوغل والانتشار، لكن ليس قبل العبث معها لوقتٍ طويل!
وهنا أتوقف لأسألك يا صديقي، هل تعلم كيفية عمل بعض الأنواع من سم الحيات؟
إنه أشبه ما يكون بصراع على احتلال أماكن المُستقبِلات الحيوية بالجهاز العصبي اللاإرادي المسؤول عن أكثر العمليات حيوية في الجسم. والتي عندما يشغلها السم، تتعطل الإشارات الكيميائية للناقلات العصبية المُرسلَة بين الخلايا وبعضها، مما ينتج عنه شلل بالعضلات المسؤولة عن بعض العمليات الهامة، كالتنفس مثلًا، ومن ثم يؤدي إلى الموت! كان هذا هو ملخص الصراع الدائر في هذه الموقعة الأخيرة، صراع على احتلال الأماكن الحيوية!
وترى ماذا احتل العدو في هذه الموقعة؟ لقد احتل العدو مخدعًا عظيمًا وسط ديار بيت الرب!
ولقد كانت تلك المخادع مكانا للتقدمات والبخور والآنية، وكذا الأعشار التي يُعال منها اللاويين الخادمين، والبوابين، والحارسين، والمغنين. وعندما احتلها العدو، لم يبقَ مكانًا لأنصبة اللاويين الخادمين كل أنواع الخدمة والحراسة، فتركوا عمل بيت الرب، وانشغلوا بأعمالهم الزمنية كيما يقيتوا بيوتهم! «وَعَلِمْتُ أَنَّ أَنْصِبَةَ اللاَّوِيِّينَ لَمْ تُعْطَ، بَلْ هَرَبَ اللاَّوِيُّونَ وَالْمُغَنُّونَ عَامِلُو الْعَمَلِ، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى حَقْلِهِ» (نحميا ١٣: ١٠).
وبكل أسف، كان المتورط في هذه الكارثة ألياشيب الرأس، إذ كان قد ارتبط بروابط عائلية مع أشرس عدوين لشعب الله، سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني!
«وَقَبْلَ هذَا كَانَ أَلْيَاشِيبُ الْكَاهِنُ الْمُقَامُ عَلَى مِخْدَعِ بَيْتِ إِلهِنَا قَرَابَةُ طُوبِيَّا، قَدْ هَيَّأَ لَهُ مِخْدَعًا عَظِيمًا حَيْثُ كَانُوا سَابِقًا يَضَعُونَ التَّقْدِمَاتِ وَالْبَخُورَ وَالآنِيَةَ، وَعُشْرَ الْقَمْحِ وَالْخَمْرِ وَالزَّيْتِ، فَرِيضَةَ اللاَّوِيِّينَ وَالْمُغَنِّينَ وَالْبَوَّابِينَ، وَرَفِيعَةَ الْكَهَنَةِ... وَكَانَ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي يُويَادَاعَ بْنِ أَلْيَاشِيبَ الْكَاهِنِ الْعَظِيمِ صِهْرًا لِسَنْبَلَّطَ الْحُورُونِيِّ...» (نحميا ١٣: ٤، ٥،، ٢٨)
ترى كيف تصرَّف نحميا في هذه الموقعة؟
أتذكر عزيزي الموقعة الأولى، التي فيها سمع العدو، فساءه مساءة عظيمة! هنا في الموقعة الأخيرة نحميا هو الذي سمع - بما فعله ألياشيب الكاهن العظيم - فساءه مساءة عظيمة! وعندها - بلا تردد - ترك قصر الملك، وعاد عودته النهائية إلى أورشليم. «وَأَتَيْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفَهِمْتُ الشَّرَّ الَّذِي عَمِلَهُ أَلْيَاشِيبُ لأَجْلِ طُوبِيَّا، بِعَمَلِهِ لَهُ مِخْدَعًا فِي دِيَارِ بَيْتِ اللهِ. وَسَاءَنِي الأَمْرُ جِدًّا…» لم يُطَق نحميا أن يكون للعدو وطأة قدم في مخادع بيت الرب، فطهَّر مخادع بيت الله من كل ما يخص العدو، وعاد وَرَدَّ إليها كل ما يخص الله، كيما تصعد من هذه المخادع روائح سرور لله. ثم شدَّد عليها الحراسة مجددًا.
«وَطَرَحْتُ جَمِيعَ آنِيَةِ بَيْتِ طُوبِيَّا خَارِجَ الْمِخْدَعِ. وَأَمَرْتُ فَطَهَّرُوا الْمَخَادِعَ، وَرَدَدْتُ إِلَيْهَا آنِيَةَ بَيْتِ اللهِ مَعَ التَّقْدِمَةِ وَالْبَخُورِ … وَكَانَ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي يُويَادَاعَ بْنِ أَلْيَاشِيبَ الْكَاهِنِ الْعَظِيمِ صِهْرًا لِسَنْبَلَّطَ الْحُورُونِيِّ، فَطَرَدْتُهُ مِنْ عِنْدِي … فَطَهَّرْتُهُمْ مِنْ كُلِّ غَرِيبٍ، وَأَقَمْتُ حِرَاسَاتِ الْكَهَنَةِ وَاللاَّوِيِّينَ، كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ» (نحميا ١٣: ٤-١٠، ٢٨-٣٠).
لقد أقام نحميا أُناسًا على هذه المخادع قبل سفره إلى بابل ليهتموا بهذا الأمر بالذات. «وَتَوَكَّلَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أُنَاسٌ عَلَى الْمَخَادِعِ لِلْخَزَائِنِ وَالرَّفَائِعِ وَالأَوَائِلِ وَالأَعْشَارِ، لِيَجْمَعُوا فِيهَا مِنْ حُقُولِ الْمُدُنِ أَنْصِبَةَ الشَّرِيعَةِ لِلْكَهَنَةِ وَاللاَّوِيِّينَ…» (نحميا ١٢: ٤٤، ٤٥).
وربما كان هؤلاء الناس أكفَاء، لكنهم لم يكونوا أمناء، فجبنوا أمام ألياشيب وأقربائه! ولذا عاد واستبدلهم بخَزَنة كان مؤهلهم الوحيد هو أنهم أمناء. «وَأَقَمْتُ خَزَنَةً عَلَى الْخَزَائِنِ … لأَنَّهُمْ حُسِبُوا أُمَنَاءَ …» (نحميا ١٣: ١٣).
ألم تكن هذه هي وصية بولس لتلميذه تيموثاوس، أن يُودع الأمور المقدسة لأُناس يكونون أولاً أمناء، ثم أكفَاء! «وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا.» (٢تيموثاوس ٢: ٢)
وفي الختام، انتهت حياة هذا الرجل تمامًا كما بدأت. فلقد بدأ واقفًا، صامدًا، مصليًا، وهكذا انتهى منتظرًا (كمعنى اسم أبيه، حَكَلْيَا: انتظار يهوه). فلقد كان - مع جموع الأتقياء - ينتظر تعزية يهوه (كمعنى اسمه، نَحَمْيَا). وربما صلى مرارًا مع كاتب المزمور: «كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى قَوْلِكَ، فَأَقُولُ: مَتَى تُعَزِّينِي؟» (مزمور ١١٩: ٨٢)
وبينما كان يتمتم بكلماته الأخيرة «فَاذْكُرْنِي يَا إِلهِي بِالْخَيْرِ»، كان ستار الصمت الإلهي يُسدَل ببطء، ليفتح من جديد - بعد ٤٠٠ سنة - على رجل آخر ينتظر ذات التعزية في ذات المكان! وها قد سمع الله (كمعنى اسم هذا الرجل، سمعان)، وأتت التعزية - التي طال انتظارها - بأروع وأبهى وأكمل ما تكون، متمثلة في المشهد الأخير لحياة هذا الرجل!
«وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ … وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ... أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ...» (لوقا ٢: ٢٥، ٢٨- ٣٠). «الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالابْتِهَاجِ. الذَّاهِبُ ذَهَابًا بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ، مَجِيئًا يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ» (مزمور ١٢٦: ٥، ٦).