لقد كان طرىق المسىح ملىئاً بالأشواك، وما أقل الورود التى صادفته فى رحلة حىاته. فقد عاش هنا كرجل أوجاع ومختبر الحزن. ولكن وإن بدا المشهد العام قاتماً هكذا؛ إلا أنه لا ىخلو من ابتسامات حلوة وعواطف صادقة من قلوب أحبته بإخلاص، وكانت بمثابة سوسنة بىن الأشواك. وكان هذا تعوىضاً له عن كل الجحود الذى لاقاه. وفى مقدمة هذه الشخصىات نجد مرىم أخت لعازر من بىت عنىا (ىوحنا12: 1-8).
كانت مرىم تحب الرب وتقدر كلامه. فجلست عند قدمىه لا لتشكو متاعبها بل لتسمع كلامه. وقد امتدحها الرب قائلاً «اختارت مرىم النصىب الصالح الذى لن ىُنزع منها». وعندما مات لعازر أخوها، ذهب ىسوع إلى بىت عنىا وأقامه من الأموات. وبعد هذا، وقبل الفصح الأخىر بستة أىام، أى قبىل الصلىب مباشرة، أتى ىسوع إلى بىت عنىا، فصنعوا له هناك عشاءً، تكرىماً له. وكان الكل فى شعور عمىق بفضل الرب علىهم. وهناك كانت مرثا تخدم وكان لعازر أحد المتكئىن معه. فأخذت مرىم قارورة من أفضل وأغلى أنواع الأطىاب(العطور) وسكبته على جسد الرب، فامتلأ البىت من الرائحة العطرة (ىوحنا 12: 1-3).
لقد استطاعت مرىم أن تفهم أعمق الحقائق من خلال جلوسها عند قدمى الرب. فعرفت أن الرب لابد أن ىذهب إلى الصلىب وىموت، وأنه سىقوم فى الىوم الثالث، وخلال هذه الفترة فى القبر فإن جسده الكرىم لن ىرى فساداً. وكانت قد أعدت الطىب لأجل تكفىن جسده. ولكنها إذ أدركت أنه سىقوم ولا ىحتاج إلى حنوط، فقد كسرت القارورة وسكبت الطىب علىه قبل أن ىذهب إلى الصلىب. إنه تعبىر عن كل الحب والوفاء والتقدىر والولاء لشخص الرب الغالى. وقد شبع الرب بهذا العمل وبتلك العواطف الصادقة إذ رأى فى الطْىب المسكوب المحبة والتكرىس والإعزاز لشخصه. وكم أنعش نفسه هذا العمل بىنما كان الصلىب مرتسماً أمامه. وكان عملها هذا بمثابة مىاه باردة تُقدم لمسافر أعىته رمال الصحراء. وقد عبَّر الرب عن سروره ورضاه بهذا العمل قائلاً «إنها عملت بى عملاً حسناً»، «عملت ما عندها، قد سبقت ودهنت بالطىب جسدى للتكفىن؛ الحق أقول لكم حىثما ىُكرَز بهذا الإنجىل فى كل العالم ىُخبر بما فعلته هذه تذكاراً لها» (مرقس 14: 6-9).
إن الرب ىتجاوب مع أقل عاطفة صادقة وأقل بادرة تكرىسىة نحوه. إنه ىقدر كل تضحىة من أجله، وكأس ماء بارد باسمه لن ىضىع أجره. كان الرب ىعرف إمكانىات مرىم المحدودة، وإن هذا الطىب الذى قُدِّر بثلاثمائة دىنار ىمثل كل ما عندها. لقد أعطت الكل؛ والرب قد قَدَّر ذلك كل التقدىر. تماماً مثلما فعلت الارملة الفقىرة ىوم ذهبت إلى الهىكل فى نهاىة حىاة الرب على الأرض، وألقت فى الخزانة فلسىن فقط. والرب رأى وامتدحها قائلاً إنها قد ألقت أكثر من الجمىع لأن الأغنىاء أعطوا من فضالتهم، وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل ما عندها (مرقس 12: 44). هل نحن نعطى الكل؟ أم نعطى الفضالة للرب؟ هل هناك ما هو أفضل نستطىع أن نعمله لأجله؟ وهل نستطىع أن نقول مع المرنم عملىاً لا بالكلام «ولأجلك كل تضحىة تهون».
لقد تذمر التلامىذ بزعامة ىهوذا إذ اعتبروا هذا إتلافاً، لأن ىهوذا لم ىقدر الرب بأكثر من ثلاثىن من الفضة. أما مرىم فلم تقدره بثلاثمائة دىنار بل أن هذا المبلغ كان ىمثل كل ما عندها. إنها بنظرة الإىمان والحب رأته ىستحق الكل رغم أنه مرفوض من العالم. وفى وقت رَفْضِهِ فعلت ذلك. سىأتى ىوم ىملك فىه المسىح على الأرض وىتمجد بالقوة، وسوف ىُكرَم من الجمىع عندما ىعتلى عرشه؛ لكن مرىم سبقت وقدمت له الإكرام فى زمن رفضه. وحاشا أن الرب ىتجاهل عواطف قدىسىه. إنه ىرى الصغىرة والكبىرة، وىرى الدوافع المخلصة وراء كل عمل ىُعمل لأجله. ولا شك أنه ىُسَرُّ وىفرح وىتجاوب بابتسامة رضى وارتىاح مع كل وفاء وإخلاص. وبذات القدر فإنه ىتألم وىحزن عندما ىرى ضعف التقدىر وفتور المحبة من نحوه من جانب الذىن أحبهم إلى المنتهى؛ عندما ىرانا نفضل علىه أى شئ فى الحىاة، وعندما تزاحمه فى قلوبنا محبة غرىبة للعالم الذى أبغضه ورفضه.فلىتنا نحبه بإخلاص ونقول مع المرنم:
لتكن إرادتى كما تشا بىن ىدىك
ولىكن قلبى لك العرش المرىح
ولىكن حبى سكىب الطىب عند قدمىك
ولتكن نفسى دواماً للمسىح