«يارب لم يرتفع قلبى ولم تستعل عيناى» (مزمور131: 1 )
"إن كانت الفضائل مجتمعة هى كالجسد، فإن التواضع هو رأس هذا الجسد"، هكذا قال أحدهم.
لذا قال سليمان الحكيم إن العيون المتعالية (الكبرياء) هى على رأس الخطايا التى يبغضها الرب (أمثال6: 16 ،17). وقد نصح الرسول بطرس الأحداث قائلاً «تسربلوا بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة» (1بطرس5: 5 ).
التواضع صفة نادرة، خاصة فى الشباب، لكنها ليست معدومة - وقد لمعت هذه الصفة بوضوح فى داود وبانت فى كثير من مواقف حياته.
صفات متميزة
ربما نظن أن داود الفتى الراعى، الذى قضى حياته بين الغنم، لم يكن له من المؤهلات ما يدفعه للزهو بنفسه، لكن الكتاب المقدس يذكر عنه بعض المواصفات يندر أن تجتمع فى شخص واحد، خاصة من الشباب (1صموئيل61: 81 ). فمن جهة الهيئة: أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر. ومن جهة الشخصية: جبار بأس ورجل حرب. ومن جهة الإمكانيات الطبيعية: فصيح ويُحسن الضرب. لكنه مع كل هذا لم يكن مغروراً مزهواً بنفسه. وهذا ما يتضح من مواقفه المتعددة...
فى أسرته (1صموئيل 61: 1-13)
لما ذهب صموئيل ليمسح واحداً من أولاد يسى البيتلحمى ملكاً، أتى يسى ببنيه السبعة. أما داود فلم يذكره إلا عندما سأل صموئيل عن أولاد آخرين، وكانت الإجابة: «بقى بعد الصغير وهو يرعى الغنم» (ع11). كان داود قليل الشأن والأهمية فى نظر أبيه، فأوكل إليه أبسط المهام؛ رعاية الغنم. وما كان يخطر على باله أن يحضره لصموئيل الذى جاء يبحث عن ملك. إن الغلام المنسى من الأهل كان هو الأهم عند الرب، وهذا ما برهنت عليه حياة داود بعد ذلك. لكن العجيب أنه ظل يرعى الغنم حتى بعد مسحه ملكاً، ولم يستنكف من هذا العمل الوضيع (1صموئيل71: 51 ). وقد كان هذا مرتباً من الرب ليدربه لمهام أسمى وأعظم. إذاً فلنقبل كل وضع يرتبه لنا الرب بقلب متضع.
مع إخوته (1صموئيل 71: 21-29)
أرسل يسى داود ليفتقد اخوته فى الحرب حاملاً لهم بعض الخيرات. ولما قابله اليآب الأخ الأكبر، غضب عليه وكلـَّمه بكلمات جارحة: «لماذا نزلت، وعلى مَنْ تركت تلك الغنيمات القليلة فى البرية. أنا علمت كبرياءك وشر قلبك لأنك إنما نزلت لكى ترى الحرب». أما داود، ذو القلب المتضع، فلم يغضب ولم ينسحب شاعراً بالمهانة أو نادماً على خدمته لإخوته، بل أجابه بكل عقل: «ماذا عملت الآن. أمَا هو كلام؟» أو «ألا يَحِق لى حتى أن أوجه سؤالاً؟». ثم تحوّل داود عن أخيه وظل يستفسر عن هوية جليات الفلسطينى الأغلف، وكيف يتطاول ويعيِّر صفوف الله الحى. ألا نرى أن ذا النفس المتضعة لا يفشل بسهولة ولا ينسحب بسرعة ؟
يوم النصرة (1صموئيل 71: 62-85)
حقق داود انتصاراً مُذهلاً على جليات، إذ وضع كل ثقته فى رب الجنود. وبعد انتهاء المعركة رجع من الوادى حاملاً رأس جليات فى يده وأتى به إلى أورشليم. وأخذه أبنير رئيس الجيش وأحضره أمام شاول ورأس جليات بيده، فسأله شاول: ابن مَنْ أنت ياغلام؟ يا للعجب! هل نتصوَّر هذا الموقف؟! فهذا المحارب الشجاع المنتصر يناديه شاول العاجز الفاشل: غلام؟! لا غرابة، فإن كبرياء شاول لم تحتمل الموقف، لذا كلـّمه بهذا الأسلوب. لكن ماذا كان رَّد فعل داود؟ أجاب بكل لطف ووداعة: «ابن عبدك يسى البيتلحمى» - يا لروعة التواضع! لا أثر لضيق أو غضب. ماذا يا أخى الشاب لو كنت فى ذات الموقف؟ كيف كنت تتصرف؟ كان يوناثان ابن شاول مُعايناً للموقف، ولما انتهى داود من حديثه مع شاول، تعلقت نفس يوناثان بنفس داود وأحبه كنفسه، وقطع معه عهداً. ألا نتعلم من هذا، أحبائى الشباب، أن تواضع القلب والكلمات اللطيفة تجذب الآخرين إلينا فيحبوننا ويتعلقوا بنا، أما الكبرياء والكلمات القاسية فتجعلهم ينفرون ويبتعدون عنا.
عند الزواج (1صموئيل 81: 71-03)
بعد نُصرة داود العظيمة، غنت له النساء وقلن «ضرب شاول ألوفه وداود ربواته» ووصلت تلك الأغنيات لأذنى داود. وكان من المتوقع لهذا الشاب أن يمتلئ غروراً وإعجاباً بالنفس وشعوراً بالأهمية الذاتية. لكن الأحداث بعد ذلك كشفت عكس ذلك. فلما عرضوا عليه أن يصاهر الملك ويتزوج ابنته الكبيرة، وكان هذا مُخطّطاً خبيثاً من شاول للتخلص منه، قال داود لشاول «مَنْ أنا وما هى حياتى وعشيرة أبى فى إسرائيل حتى أكون صهر الملك» (ع81). ثم مرة أخرى لما كرر الملك عرضه بواسطة عبيده، أجاب داود: «هل هو مستخف فى أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير» !! هذا الشخص الوضيع فى عينى نفسه، كان بطلاً مقداماً «وكان داود مُفلحاً فى جميع طـُرقه والرب معه» «فرأى شاول وعلم أن الرب مع داود» (ع21 ،28). ما أروع التواضع! لكنه لكى يظهر فينا لابد أن نكون دائماً فى شركة مع المسيح الذى دعانا أن نتعلم منه إذ هو «الوديع والمتواضع القلب» (متى11: 92 ). كما علينا أن نتعلم أن نقبل كل الظروف والأوضاع التى يرتبها لنا الرب، والمعاملات التى يسمح لنا بها، كفرصة عظيمة لكسر كبرياء قلوبنا، فنتسربل بالتواضع ونختبر نعمته المعضدة لنا.