كلمة أقنوم لم تُذكر في الكتاب المقدس، لكننا نستخدمها وهي تعني «شخص مميز لكن غير منفصل» تناولنا في العدد السابق كيف أن حقيقة وجود الله لهى أجلى من أن تحتاج إلى دليل عند كل ذي فهم، وإلا كما قال الشاعر:
لا يصح على الإفهام من شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وناقشنا أن كل الموجودات وإن كانت تدل على وجود الخالق العظيم الحكيم، إلا أنها لا تستطيع أن تُعلن لنا عن شخصه ولا عن مَنْ هو في ذاته.وخلصنا أن الأمر كان يتطلب، بالضرورة، لكى نعرف مَنْ هو الله، أن يتنازل هو تعالى ليعلن لنا عن ذاته.ولقد فعل الله ذلك حين كلم الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة، وأيضًا حين كلمنا في ابنه «الكلمة» الأزلي، الذى صار جسدًا وحلّ بيننا (يوحنا 1: 1، 14).وحين يتنازل الله في كريم نعمته ليعلن لنا ذاته، فليس لنا إلا أن نحنى هاماتنا سجودًا له، متقبلين إعلانه المبارك لنا. وأول حقيقة يعلنها الله لنا عن ذاته هي:
وحدانية الله
يؤكد الكتاب المقدس على وحدانية الله، وهاك بعض الشواهد، من العهد القديم والجديد على السواء، تعلن لنا بكل جلاء ذات الحق، أنه الواحد والوحيد. (تثنية 6: 4) «الرب إلهنا ربٌ واحد»؛ ولقد اقتبس الرب يسوع في حياته على الأرض نفس النص في مرقس 12: 29. (إشعياء44: 6) «أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيرى»
(إشعياء45: 5) «أنا الرب وليس آخر لا إله سواي»
(غلاطية 3: 20) «ولكن الله واحد»
(1تيموثاوس 2: 5) «لأنه يوجد إله واحد»
(يعقوب 2: 19) «أنت تؤمن أن الله واحد• حسنًا تفعل»
واضح من كل هذه الآيات أن الكتاب المقدس يقدم لنا إلهًا واحدًا ووحيدًا لا نظير له ولا شريك• ولكن الكتاب يعلن لنا أيضًا أن وحدانية الله من نوع خاص به؛ وهى الوحدانية الجامعة•
معنى الوحدانية الجامعة
قد يستغرب البعض هذه الحقيقة، فهل يوجد بحق ما يسمى بالوحدانية الجامعة؟! نعم، فإننا كبشر نحمل بصمات الله لأنه هو خلقنا، لذا فنحن نحمل في كياننا الإنساني ظل لهذه الوحدانية الجامعة، إذ عملنا الله على صورته كشبهه•
فكل إنسان هو كيان واحد مع أن تكوينه ليس بسيطًا، فهو يضم عناصر ثلاثة متميزة عن بعضها وهى الجسد والنفس والروح، والتميز يعنى أن الجسد ليس هو النفس، والنفس ليست هي الروح، والجسد شيء والروح شيء آخر. ولكن مع هذا التميز فإن العناصر الثلاث معًا تكوّن كيانًا إنسانيًا واحدًا
فإذا كان الحال كذلك في الإنسان، وهو المخلوق البسيط، فهل نستطيع أن ننكر على الله وحدانيته الجامعة حين يعلن لنا ذلك؟!
ولكن، هل يعلن لنا الكتاب المقدس أن الله واحد فى جمع؟ نعم.ففي أول أصحاحات السفر الأول في الكتاب؛ في تكوين 1: 26 يتكلم الكتاب عن الله بصيغة المفرد مرة وبصيغة الجمع مرة أخرى إذ يقول «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» وفى تكوين3: 22 «وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر» وفى تكوين11: 6، 7 «وقال الرب . هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم» فالله هو الواحد الجمع.
ورُب قائل بأن الجمع هنا هو جمع التعظيم، وجدير بالله أن يتكلم بهذا الأسلوب لأنه العظيم• ولكن المعروف أن اللغة العبرية - وهى اللغة الأصلية لأسفار العهد القديم - تخلو من استخدام أسلوب الجمع للتعظيم، وأيضًا لو كان المقصود بالجمع هنا هو التعظيم، لكان الكتاب قد تكلم عن الله بأسلوب الجمع دائمًا لأنه هو العظيم أبدًا، ولما تردد الحديث عن الله بين المفرد والجمع.
ومن هنا نخلص بأن المقصود بالجمع هنا هو جمع حقيقي وليس الجمع للتعظيم.
ونفهم من الكتاب المقدس أن وحدانية الله جامعة لأقانيمه؛ الآب والابن والروح القدس.
ومع أن كلمة أقنوم لم تُذكر بحصر اللفظ في الكتاب المقدس، إلا أنها تُستخدم للتعبير عن المعنى المقصود وهو «شخص مميز لكن غير منفصل»
ولكن هل ورد ذكر أقانيم الله في العهد القديم، أم أنها فقط عقيدة خاصة بالمسيحية في العهد الجديد؟ لقد أعلن الكتاب بعهديه القديم والجديد حقيقة أقانيم الله في ذات الجوهر الواحد•
الأقانيم فى العهد القديم
ففي العهد القديم نقرأ في أماكن عديدة ذكر الأقانيم: ففي مزمور 2: 7 يتكلم الابن قائلاً «إني أخبر من جهة قضاء الرب• قال لي أنت ابنى أنا اليوم ولدتك» وفى عدد21 يقول الوحى بالروح القدس «قبّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق»
وفى أمثال 30: 4 يتساءل أجور بن متقيه عن الله قائلاً «ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت» وفى أيوب33: 4 عن الروح القدس «روح الله صنعني» وفى إشعياء 48: 12 -16 عن الأقانيم الثلاثة معًا حيث يتكلم الابن قائلاً «أنا الأول وأنا الآخر ويدى أسست الأرض ويميني نشرت السموات.لم أتكلم من البدء في الخفاء منذ وجوده أنا هناك• والآن السيد الرب أرسلني وروحه» أي أن الابن كائن منذ وجود الآب أزلاً، وقد أُرسل في الزمان من الآب والروح القدس، وهذا عين ما نقرأ في افتتاحية إنجيل يوحنا.
الأقانيم فى العهد الجديد
ومع البشارة بميلاد المسيح الذي يبدأ به العهد الجديد، يأتي الإعلان الواضح عن أقانيم الله الثلاثة إذ يقول الملاك للعذراء في لوقا 1: 35 «الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعى ابن الله»
وفى مشهد معمودية المسيح أيضًا، هناك استعلان واضح للثلاثة أقانيم معًا (لوقا 3: 21، 22) فالابن كان يعتمد في الماء، والآب يتكلم من السماء يعلن محبته وسروره بابنه، والروح القدس ينزل ويستقر على الابن في هيئة جسمية مثل حمامة.
وقبل أن ينطلق المسيح راجعًا إلى السماء بعد القيامة في متى 28: 19 أوصى تلاميذه قائلاً «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» باسم وليس بأسماء إذ أن الثلاثة أقانيم هم الله الواحد.
وتتكرر الإشارة للأقانيم الثلاثة في أسفار العهد الجديد مثل رومية 1: 2-4، 2كورنثوس 13: 14، 1بطرس 1: 2.
حتمية الوحدانية الجامعة
وغنى عن الذكر أن الفرضية المنطقية تقتضى أن وحدانية الله لابد وأن تكون جامعة، فالله مكتفٍ بذاته عن سواه، ولأن وحدانية الله جامعة لأقانيمه لذا:
لم يحدث لله تغيير حينما خلق العالم، ولم ينتقل من حالة القدرة الكامنة إلى حالة القدرة الخالقة، لأن الخلق صار من محبته التي هي فيه منذ الأزل، والمحبة هي طبيعة الله، وكانت عاملة فيه أزلاً لأن الآب يحب الابن من قبل الخلق، والابن يحب الآب، والمحبة متبادلة بين الأقانيم الثلاثة• وأيضًا لم يكن الخلق هو بداية علاقات الله إذ أن علاقات الله موجودة منذ الأزل بكلمته وبروحه القدوس. فالمحبة التي كانت عاملة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة استمرت بعد ذلك بين الله والبشر.
ولحديثنا بقية بمشيئة الرب