التقيا مرة أخرى، كعادتهما، لقاءً حاراً، بدا من أوله تلهف الشاب على استكمال حديثه مع الشيخ صديقه، حول التأثر بالآخرين، فابتدأ بالقول:
كُلّي آذان مصغية لأستمع إليك مكمِلاً الحديث عن تأثير الآخرين عليَّ، وكنا قد توقفنا عند تأثير الذين ألتقي بهم عَرَضاً ولفترة قليلة.
قبل أن نستكمل كلامنا، دعني أسألك: هل عملت بشيء مما تكلمنا عنه المرة السابقة؟
لقد بدأت بالفعل تنفيذ ما نصحتني به، وبصفة خاصة ما يتعلق بقراءة بعض الكتابات الروحية واسترجاع الآيات والعظات في وقت تواجدي في وسط هؤلاء، ولا أخفيك سِرّاً أني قد بدأت أجني الكثير من الفوائد.
أحسنت يا صديقي وأثلجت صدري، فأني أحب أن أجدك دائماً سامعاً للكلام عاملاً بما فيه من نُصح، وليس مجرد مستمع. إذاً دعنا ننتقل للحديث عن الفريق الثاني: الذين تربطني بهم علاقة لم أخترها بنفسي وتستمر هذه لمدة من الزمن؛ زملائي في المدرسة مثلاً. أو بلغة التجربة الفيزيائية السابقة حالة تلاصق الجسم البارد والساخن لعدة دقائق.
حسناً أنك ذكّرتنا بتلك التجربة، ما رأيك إذا وضعنا بين الجسمين طبقة من مادة عازلة للحرارة؟
سيقل تأثير الجسمين على بعضهما، بل وربما يختفي التأثير.
عظيم، وهذا أول ما عليك أن تفعله.
وضِّح لي عملياً من فضلك.
إن هذه الطبقة العازلة في تصوري هي إدراكي أني مختلف عن زملائي اختلافاً كبيراً.
أي اختلاف هذا؟ إننا في مثل العمر وفي مثل الظروف تقريباً؟!
أنا لا أقصد اختلاف تراه العين الطبيعية، بل ما هو أعمق، اختلاف في القلب، أقصد به الإيمان بالرب يسوع المسيح كالمخلِّص والسيد الحقيقي للحياة. فأنا هنا أقصد تميز المؤمن عن غير المؤمن. ويكفي أن أذكِّرك باختلاف سيد كل من الفريقين؛ فواحد سيده هو إبليس، والآخر سيده هو الرب يسوع. كما وأذكِّرك باختلاف نهاية كل منهما.
وهل معنى ذلك أن أنعزل تماماً عن الآخرين فلا أتحدث معهم أو أتعامل معهم بطريقة أو بأخرى؟!!
لا تكن عجولاً في فهمك للأمور. لم أقل ذلك مطلقاً. بل إني أرى أني سأتعامل معهم بكل الود والتعاون، وأشاركهم ما لا غبار عليه كدروس العلم وأنشطة المدرسة الطبيعية، بل وسأقوم بخدمتهم متى سمحت لي إمكانياتي.
أرى في كلامك تضارباً، فكيف إذاً أكون مختلفاً عنهم.
لا تضارب على الإطلاق يا صديقي، فأنا معهم لكن لست منهم، بمعنى أن تواجدي معهم بحكم الظروف لا يلزمني أن أحيا بطريقتهم.
لا أفهم.
دعني أعطيك مثلاً من حياة الشاب الرائع يوسف بن يعقوب، يقول عنه الكتاب: «إذ كان ابن سبع عشرة سنة، كان يرعى مع اخوته الغنم، وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه. وأتى يوسف بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم»(تكوين 37: 2). فهو كان يرعى مع إخوته، مثله مثلهم في ذلك، لكن إذ وجد أنهم يضمرون شرّاً تجاه أبيهم، لم يسايرهم في ذات الطريق بل تصرف بطريقة مختلفة عنهم؛ فكونه شاركهم رعاية الغنم لا يعني أن يشاركهم نميمتهم أو يتستر عليها. كذلك كان دانيآل، فقد شارك رفقاءه كل ظروفهم، لكنه وضع في قلبه ألا يتنجس حتى إن فعل الأخرون (دانيآل1).
طبِّق لي هذا عملياً من فضلك.
إن اختلافي عنهم يظهر عندما يخرجون عن دائرة ما يربطنا ببعض، وفي حالتنا هنا أقصد الدراسة. فإذا خرج الحديث، مثلاً، عن حدود ذلك وابتدأ ينحرف إلى بعض النكات السفيهة والتلميحات الرديئة، فعليَّ أن أنسحب، متذكِّراً أني لست مثلهم، ولا يمكنني أن أسايرهم هذه الطريق.
وماذا أيضاً؟
حتى سعيهم لما هو صحيح بطريقة غير صحيحة عليَّ أن أنفصل عنه.
ماذا تقصد؟
أعني أن النجاح، مثلاً، أمر سليم، وهو غاية تجمعني معهم، لكن سعي بعضهم للنجاح عن طريق الغش لا يعني أن أفعل مثلهم، أو حتى أساعد أحدهم على ذلك. كذلك في وقت الرياضة مثلاً، فالفوز في مباراة كرة قدم متفق عليه، لكن أن تكون وسيلتي في هذا هي العنف أو التلفظ بألفاظ غير لائقة، فهذا أمر ينبغي ألا أفعله. باختصار عليَّ أن أحرص كل الحرص على كل أمر كي لا يعطِّل شهادتي لهم.
شهادتي؟! ماذا تقصد؟!
إن موضوع الشهادة هذا هو أمر سنتحدث فيه في مرة لاحقة بعد أن ننتهي من حديثنا عن التعامل مع الآخرين.
إذاً لنكمل الآن الحديث.
مهلاً يا صديقي، يكفي هذا هذه المرة. وكما أرجو دائماً، خذ ما تكلمنا به، وفي روح الصلاة أمام الرب دعه يعلِّمك ما ينبغي أن تفعله. واجتهد أن تحيا كل ما تعلمته في محضر الرب.
وإلى اللقاء قريباً.