تكلمنا من قبل عن الأرض وما في باطنها، وعن المواشي وسمك البحر وما وضعه الله فيها من حاسيات. والآن يسأل الله أيوب قائلاً: «هل تربط أنت عقد الثريا، أو تفك رُبط الجبار؟ أ تُخرِج المنازل في أوقاتها، وتهدي النعش مع بناته؟ هل عرفت سنن السماوات أو جعلت تسلطها على الأرض؟» (أيوب83: 13).
عقد الثريا.. ربط الجبار.. النعش مع بناته.. المنازل.. ما هذه؟
عقد الثريا: مجموعة من النجوم، وسُميت الثريا من "ثرو أو كثرة"، وذلك لكثرتها مع ضيق المسافة بينها، لذا فهي تبدو وكأنها فصوص عقد متقاربة معاً، وضعه الحكيم في عنق برج الثور، وتظهر في أوائل الربيع.
ولقد علَّق أحد القديسين عن هذه المجموعة قائلاً: إنها كوكبة من الجواهر اللامعة لذلك يقرأ العدد هكذا: «هل تقدر أن تربط البروش البراق على صدر الليل؟». وقد ذُكر في قاموس "المنجد العربي" عن الثريا أنها مثل المنارة عديدة الأفوار (النجفة) التي تزين بها بيوتنا، فإن كنا نحن المساكين نزين بيوتنا بالنجف والكريستال، فهل كثير على الله في حكمته ومجده وغناه أن يزين سماه بهذا العقد من الكواكب والنجوم المرصعة وجمالها من بهاء وضياء؟! وهل تستطيع أن تخبرني يا أيوب أيضاً عن نوع المادة التي صُنع منها هذا العقد الذي يحمل هذا العدد الهائل من النجوم، هذه المجموعة التي يزن الواحد منها ملايين الأطنان؛ هل صُنِع من السلك أم من خيط الحرير؟!
الجبار: اسم لأحد الأبراج «أوريون»، وهي مجموعة من الكواكب قريبة من الدب الأكبر في خطوط طولية وعرضية تحتوي على نحو 1000 كوكب. وقد سُميت بهذا الاسم حيث يمكن تخيلها على صورة جبار ممسك بسيفه، كما كانوا يشبهونه بانسان عظيم القوة اشتهر بالصيد وصنع الحديد، وقد رُبط في السماء بربط لا يمكن حلها، أو فكها كما يقولون، ولذلك يسأل الله أيوب: هل تستطيع أن تفك رُبط الجبار لتحركه من مكانه؟
المنازل: هي مجموعة مكوَّنة من 12 كوكباً، كان اليهود يعبدونها والوثنيون يقدسونها، لذلك لما جاء الملك التقي يوشيا ورأى ذلك، أدرك تحول الشعب عن الرب فأبطل عبادتها وعزل كهنتها من الخدمة (2ملوك23: 5).
النعش: 7 كواكب تُشاهَد جهة القطب الشمالي، وبقربها 7 أخرى تُسمى "بنات نعش الصغرى" وهي ذات نور قوي جداً. أسماه اليونانيون والرومان "الدب الأكبر"، وهي التي تحدد اتجاه الشمال لمن يسيرون في الصحراء؛ إنها تهدي الآخرين، هل تتذكر النجم الذي تقدم المجوس قديماً ليهديهم إلى المولود ملك اليهود (متى2).
ليتنا نكون كالكواكب المضيئة التي تهدي الكثيرين إلى البر (دا 12: 3).
ومن العجيب أن هذه المجموعات التي تكلم عنها الرب مع أيوب لها ارتباطها بالأرض، فيُقال أن الثريا من خصائص الربيع؛ والجبار من خصائص الشتاء. وعملية الربط والفك التي يقول عنها الله لأيوب معناها إطلاق الشتاء أو تعويقه أو ابطاء فصل الربيع، وكأن الرب يسأل أيوب: هل يمكنك أن تعطل قدوم الربيع أو تنهي موسم الشتاء؟ والشتاء يشير إلى الضيق والآلام التي لها وقتها المحدد من قِبَل الله، وأيام الربيع حيث موسم الغناء والفرح والأثمار (نشيد2: 10-14). وكأن الرب يقول له: ثق يا أيوب أن كل شيء له وقته، وإني أنا المسيطر على كل ما في خليقتي، فأنا وحدي الذي أستطيع أن أقودك من وجه الضيق إلى رحب لا حصر فيه (أيوب36: 16) في الوقت المعين.
نعم إن كل ما في خليقته تنطق عن مجده «السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه» (مز19: 1)، فهل تعلم العدد لهذا الكم الهائل من الكواكب والنجوم التي ترصِّع السماء؟ إن آخر ما استطاع الإنسان رصده بكل أجهزته المتقدمة هو 1018 مجرة، ويقدَّر عدد النجوم في كل مجرة 1014؛ من ذلك نستنتج أن ما أحصاه الإنسان حتى الآن هو 1032 نجماً في السماء.. وهل يعلم الإنسان أسماءها وعددها الحقيقي؟ وهل يستطيع أن يضبط واحدة منها؟ ولكن اسمع ما يقوله إشعياء النبي عن الرب «ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا، مَنْ خَلق هذه. من الذي يخرج بعدد جندها، يدعو كلها بأسماء؟ لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يُفقَد أحد» (إشعياء 40: 26)
يا لها من تعزية فائضة لقلوبنا، نحن المؤمنين، فإن كان الله الذي خلق هذه الخليقة يحيطها بكل العناية والاهتمام، فكم بالحري نحن المؤمنين الذين فدانا بدمه ودفع فينا أغلى ثمن؟ إننا أعزاء على قلبه جداً، لدرجة أنه يحصي شعور رؤوسنا، ويدعو كل منا باسمه، وهو أعظم ضامن لنا، فهو صاحب القول العظيم: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي» (يو10: 27 ،28)، فهو الذي سيصل بنا إلى بيت الآب في سلام.