لمدة تزيد عن 22 سنة، ولثلاث مرات أسبوعياً، ظل عم «طانيوس» يصعد إلى بيت أخيه، ليوجِّه دعوة لأبنائه الستة للدخول من باب النعمة المفتوح على مصراعيه أمام أشر الخطاة، وللتمتع بالخلاص العظيم المجاني الذي يقدِّمه الرب يسوع المسيح للجميع على أساس موته الكفاري على الصليب.
وفي هذه الليلة حاول الشيطان أن يثني عم طانيوس عن عزمه، موجِّهاً إليه واحدة من سهامه الملتهبة، سهم اليأس والقنوط، هامساً في أذنيه: لا فائدة.. لا تتعب نفسك.. إن أبناء أخيك يزدادون زيغاناً وفساداً، وخاصة «مارون» الذي وصل إلى أقصى درجات الضلال والشر، وصار يفعل كل الخطايا بكل سرور وسهولة فصارت جزءاً منه، وصار يروع الكل من حوله بتجاوزاته ومشكلاته. إنه يستمع إلى كلمات الإنجيل وهو يضحك ويمزح غير عابئ بوعدٍ أو وعيدٍ.
ولكن لأن الكتاب المقدس لا يقول ناقشوا إبليس، بل «قاوموا إبليس فيهرب منكم. اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم» (يعقوب4 :7 ،8)؛ قال عم طانيوس لنفسه: إن خلاص اللص التائب على الصليب يوجِّه دعوة لأن نقدِّم بشارة الإنجيل لأي شخص، ولو كان على حافة الموت، ومهما كانت الخطايا ومهما ارتفعت جبالاً فوق التصور والخيال، فإنه «حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً» (رومية5 :20). وإنني إن لم أستطع أن أقدِّم لخاطئ أوغل في الشر والإثم والنجاسة، خلاصاً كاملاً ومبهجاً، فأنا لا أعرف على الإطلاق خلاص الله الحقيقي.. أنا عالم بمن آمنت.
وركع عم طانيوس بجوار سريره، مؤمناً أن ثمر الصلوات المستمرة لا بد أن يُستجاب، وطلب من الرب أن يجعل أمامه في هذه الليلة باباً مفتوحاً، وأن يقبل ويذهب معه.
وعندما وصل إلى بيت أخيه، لم يجد عم طانيوس في البيت سوى مارون، الذي حاول أن يوصد أذنيه حتى لا يسمع فصل الكتاب الذي يقرأه عمه. ولكن وصلت إلى مسامعه جملة «إنسان غني له خمسة أخوة مات ودفن». فتساءل في نفسه عمن يتكلم عمه؟ إنه هو أيضاً ذا أموال كثيرة، وهو أيضاً له خمسة أخوة. لينصت إذاً ليرى مصير هذا الشخص الذي يشابهه.
وبصوت متهدج، وبنبرة جادة، وبعيون دامعة، وبقلب مكسور، وبوجه مليء بالمحبة والعطف؛ انسابت الكلمات من فم عم طانيوس.
مارون.. هذه قصة تدور حول رجل غني متنعم، ورجل آخر مسكين محتاج. مات كلاهما فذهب أحدهما إلى السماء، والآخر إلى العذاب. إن بين الحياة والموت لحظة، وفي هذه اللحظة يدخل الإنسان عالم آخر: إما أن يمضي إلى الفردوس على رجاء، وإما أن يمضي إلى العذاب بدون رجاء.
مارون.. إن هذه القصة، التي نطق بها المنزه عن الكذب، تثبت أن تاريخنا لا ينتهي بالموت. مات الغني فهل كَفَّ عن الوجود؟ كلا لقد كان مستيقظاً تمام اليقظة. إن الغني لم يتلاشَ بعد موته، بنفس القدر الذي لم يتلاشَ فيه لعازر الفقير. وكان أحدهما يتعزى وكان الآخر يتعذب. فهناك يقيناً حياة بعد الموت وبعد لحظة واحدة من الموت يكون الإنسان مستيقظاً؛ إما في العذاب أو في النعيم والهناء.
لقد وجد الغني نفسه بعد الموت في مكان اللهيب يتعذب، وهو رأى وشعر ونادى وترجى وسمع وتذكر (لوقا16 :23 - 25). نعم لقد كان مستيقظاً تمام اليقظة.. ولكن وا أسفاه على حياة سيقضيها في العذاب إلى الأبد. الحسرة تعتصره ولا مفر منها.. ولسانه يلتهب من ضمير مضطرم بالعذاب، وفي هذا الجب الملتهب سيظل يصرخ: هل من نجاة؟ ولا أمل في خلاص أو في نجاة. لقد أصبحت قطرة ماء على طرف أصبع أمنية صعبة المنال في عذاب اللهيب هذا.. آه، لقد مضى الوقت وانتهى زمان النجاة، فليتجرع إذاً كأس الغضب إلى الأبد. لقد صمّ أذنيه لكي لا يسمع، رفض الله ولم يسمع دعوته له بالتوبة والإيمان.. والآن ها قد رفضه الله إلى الأبد؛ فلا توجد فرصة ثانية للخلاص بعد الموت «هُوَّة عظيمة قد أُثْبِتت... ». فالمصير وراء القبر ثابت ودائم، ولقد قال الرب للخطاه «حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا» (يوحنا8 :21)، ولا توجد فرصة ثانية لأولئك الذين سمعوا الإنجيل في حياتهم (2كورنثوس6 :2؛ عبرانيين3 :7).
ولا يستطيع الله أن يشفق على الخاطئ بعد موته. ولن تفيده صلوات جميع القديسين، فلن يغادر مكانه، ولن تجدي صرخاته، ولن تهدأ نيرانه؛ بل إنه ينتظر ساعة رهيبة أخرى عندما يقف مع بقية الأشرار أمام العرش العظيم الأبيض، لكي يُدان بحسب أعماله ويسمع قضاءه من رب القضاء العادل، ليُطرح في بحيرة النار، ليتعذب نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين (رؤيا20 :11-15)، حيث هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.
مارون.. إياك أن تتصور أنه لا يوجد جحيم أو هاوية. لقد تكلم الرب، الذي لا يمكن أن يكذب، عن الهاوية وعن الجحيم، حيث مكان العذاب والألم، مكان البكاء والعويل، مكان الشقاء والندم. وذكرى الماضي واسترجاع الضمير لرفض الإنجيل سيجعل في الخاطئ ناراً أشرّ من النار التي فيها يقيم في بحيرة النار والكبريت (متى13 :42؛ 22 :13؛ 24 :51؛ 25 :30 ،46؛ مرقس9 :43-48).
مارون.. يا ابني.. يا ابني.. لماذا تمضي إلى الأبدية بدون رجاء؟! اهرب إلى المسيح واحتمِ في دمه المسفوك لأجلك.. تعالَ إليه معترفاً له بخطاياك، ومهما كان بُعدك في الشر وتيهانك عن الله، ومهما كانت المخاوف التي تملأ قلبك، قُم ارجع الآن؛ فإن الآب المحب يتوق إلى رجوعك ليغمرك بمحبته ويغنيك بعطايا نعمته. إن المسيح الذي ذُبح من أجلك يمد يديه إليك قائلاً: «من يُقبِل إليَّ لا أخرجه خارجاً» (يوحنا6 :37).
ولم يعرف مارون متى غادر عمه البيت، ولا كم من الوقت ظل هو يفكر فيما قد سمعه. وعندما اضطر للخروج من المنزل لشراء بعض حاجيات، شعر لأول مرة بالخوف والرعب؛ خاف أن تصدمه سيارة في الطريق، ويمضي إلى موضع العذاب قبل أن يتعرف على المسيح كمخلِّصه وفاديه. فعاد مسرعاً إلى البيت واتصل بالتليفون بعمه ليسأل عن مكان هذه القصة، قصة الغني الذي له خمسة إخوة.
- لماذا يا مارون؟!
- أريد أن أقرأها بنفسي مرة أخرى يا عمي.
- إنها موجودة في إنجيل لوقا 16 :19-31.
وعندما وضع عم طانيوس سماعة التليفون، انسابت دموع الفرح من عينيه، وقال لزوجته: إن الروح القدس يجاهد مع مارون ليولد من جديد وليصبح خليقة جديدة في المسيح. وركعاً معاً ليصليا لكي يتمم الرب ما بدأ في حياة مارون.
أحبائي لقد تعرّف مارون بالرب يسوع المخلِّص في تلك الليلة.. ويا لروعة نعمة إلهنا!! لقد استخدمه الرب لربح إخوته الخمسة للمسيح.
عزيزي.. هل تمتعت بهذه النعمة الغنية المتفاضلة؟!