الدرس المفيد من قطار الصعيد

زمانان

ما كدنا نلتقط أنفاسنا، وننسى حريق نيويورك وواشنطن، وإذا بنا نفاجأ بحريق القطار رقم 832 المتجه من القاهرة إلى أسوان.  وعادت الصحف والإذاعات بأخبارها المفزعة والموجعة، وصارت المخاوف عالمية ومحلية.  فما هذه الأيام التي نعيشها؟  ما لونها وما نوعها؟  عمارات تنهار، وأمراض تفتك، وزلازل تدمر، وأبرياء يُقتلون، حروب حاضرة وأخبار عن حروب قادمة «على الأرض كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَة...  والناس يُغْشى عليهم من خوفٍ وانتظار ما يأتي على المسكونة» (لوقا21 :25 ،26).

يبدو أن الزمن الجميل قد ولّى، وزمن آخر قبيح قد أطلَّ.  ألعل هذه هي أخِر الأيام؟!

مفارقات

كنت في إحدى قرى أسيوط يوم الحادث، وسمعنا نوعين من الأصوات، الأولى: أصوات أعيرة نارية وزغاريد وأفراح.  والثانية: صرخات النساء وبكاء وعويل وأتراح.  فهؤلاء يبكون ويندبون على ابنهم الشاب الذي، على أخر لحظة، لحق بالقطار ووجد له مكاناً، والنتيجة أن أكلته النيران؛ وأولئك يفرحون ويبتهجون بابنهم الذي فاته القطار، وبذلك نجا من حريق النار!

أحلاهما مر

عندما شبّت النيران في القطار، تراكض الركاب وتزاحموا في العربات التي ظنوها آمنة، ولكن النيران كانت تزحف بشدة.  فكر أحدهم (شاب التقيت به بعد الحادث) إما أن يبقى في القطار ويكمل المشوار، أو يلقي نفسه في الحقول حيث المجهول.   لم يكن هذا الشاب مستعداً للقاء إلهه، وتذكر أن اللص تاب في آخر حياته، ولكنه لم يكن يعرف ماذا قاله اللص.  وفي لمح البصر ألقى بنفسه، وهو يقول: "يا رب إني أصلي صلاة اللص التي لا أعرفها".  ولم يشعر إلا وقد وجد نفسه راقداً في إحدى المستشفيات، بعد أن أفاق من كابوس مرعب.

المجند سعيد وقطار الصعيد:

اتصل سعيد بأبيه، وأبلغه أنه سيحضر في قطار الصباح، ليقضي الإجازة مع أهله.  فرح الأب والأهل بقدوم الابن بعد غياب أكثر من شهرين، وذهب كعادته إلى المحطه لانتظار ابنه، لكن القطار تأخر كثيراً.  ثم طار الخبر المشئوم بأن القطار قد احترق، فسافر الأب إلى حيث مكان الحادث.  وبعد البحث المضني، أخبروه بأن الجثث في المشرحة، فذهب إليها وأخذ يبحث عن ابنه بين الجثث المتفحمة.  تعرف على إحداها، وظن أنها لابنه من علامة مميزة في جسمه، فأخذها وضمها إلى صدره، وقبلها وبكى عليها.  وبعد استخراج الأوراق الرسمية، عاد إلى قريته وقام بدفنها.  وأخيراً رجع، ليأخذ مكانه في السرداق المقام لتلقي العزاء.

وفي اليوم التالي كانت المفاجأة، إذا بسعيد يعود إلى القرية، ودخل السرداق ورآه أبوه، لم يصدق من هول الصدمة وصاح بشدة:"يا ناس سعيد ابني حي ... ابني حي".  ثم سقط مغشياً عليه، فاحتضنه ابنه وبكى.

وبعد دقائق أفاق الأب من صدمته.. لقد كاد يموت من شدة الفرح، وانهمرت الدموع من عينيه مرة أخرى وهو يحتضن ابنه الوحيد سعيد.  وتغير الحال، فالسرداق المقام لاستقبال المعزيين، صار يستقبل المهنئين.

وحكى الابن حكايته، أنه في أخر لحظة، أُلغيت أجازته، وكلفوه بمأمورية طارئة، وبذلك لم ينزل في الموعد المحدد، وفاته بالطبع القطار.

عزيزي عزيزتي:

هل كان ذلك الشاب يتمنى أن ينزل أجازة؟  لا شك أنه كان يتمنى.

وهل كان يرغب في أن يلحق بالقطار؟ بالتأكيد كان يرغب.

وهل حزن عندما ألغوا أجازته؟ لا بد أنه حزن.

لقد حسب سعيد أن المأمورية في أيام العطلة، هي نوع من التكدير والحرمان، لكن ما أعظم ما يدبره إلهنا الحنّان..  نعم، هو يمنع ويمنح، لقد منع عنه الأجازة لكي يمنحه الحياة!

وأنت أيها القارئ

ربما كنت تحلم بالهجرة إلى أمريكا، وربما كنت ترغب في الإقامة في نيويورك، وتتمنى أن تعمل في أحدى الوظائف ببرج التجارة العالمي..  لكن شكراً لله، لأن حلمك لم يتحقق وطلبك لم يُستجَب..

وإن كان المجند سعيد هو الأسعد في مأساة قطار الصعيد، إذ وهبه الله عمراً جديداً؛ وألست أنت أيضاً سعيداً؟  فأنت حي إلى اليوم، وها أنت تقرأ في المجلة الآن.  لذلك أمامك اليوم فرصة ذهبية لتفكِّر في الحياة الأبدية..

فاجلس، وتأمل، وتعلَّم: لماذا أنا حي بعد؟  ولماذا هم ماتوا، رغم أن الضحايا ليسوا مذنبين أكثر منا؟ 

إن الإجابة الشافية والكافية هي أن الله «يتأنى علينا، وهو لا يشاء أن يَهلك أناس، بل أن يُقبِل الجميع إلى التوبة» (2بطرس3:9).  هذا هو الدرس المفيد.

فهل تصلي..

مع العشار قائلاً  «ارحمني»؟  

أو مع اللص وتقول  «اذكرني»؟  

ومع داود وتقول  «طهرني»؟  

بل ومع شاول وتقول  «يارب ماذا تريد أن أفعل؟»   

ويا ليتك تفعل!