في يوم الأحد 10/3/2002، وفي تمام الساعة الحادية عشر صباحاً، وصل القطار 980 إلى محطة المنيا قادماً من القاهرة. وأثناء توقفه على الرصيف، فجأة انطفأت أنوار القطار، ثم سمعنا أصواتاً صارخة من الذين على أرصفة المحطة تنبه ركاب القطار: أسرعوا.. انزلوا.. اهربوا.. القطار يحترق.. انزلوا.. الدخان يتصاعد من الجرار..
أصيب كل الذين في القطار بالفزع والهلع، وتدافعوا نحو الباب صارخين، لينجوا بأنفسهم والرعب يملأ وجوههم؛ فلم تكن قد مرت سوى أيام معدودة على حادثة قطار الصعيد الذي راح ضحيته المئات من الركاب الذين تفحمت جثثهم داخل العربات المحترقة في كارثة مروعة تناقلت صورها الصحف ووسائل الإعلام.
واندفعت السيدة التي تجلس في المقعد الذي أمامي هاربة، صارخة، مرتعبة، والفزع يملأ وجهها من الشر المُنتظر. وما أن خطت خطوات قليلة حتى صاح بها الرجل الذي يجلس بجانبها. وهو يهم أيضاً بالفرار: إلي أين تذهبين؟!
أجابت السيدة: القطار يحترق.. لنهرب..
رد عليها الرجل بلهجة موبِّخة معاتبة لا تخلو من التهكم: وهل ستتركين طفلك؟!
عزيزي لقد هربت السيدة لحياتها ونسيت أن تأخذ طفلها الرضيع في يدها.. هل تصدق هذا؟! إنني أصدقه، ليس فقط لأني كنت شاهد عيان لما حدث، ولكن لأن كلمة الله تقول «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك» (إشعياء 49: 15).
نعم حتى هؤلاء ينسين والرب لا ينسانا.. ففي أحد المقاعد في نفس العربة (العربة الثانية من القطار 980) كان أحد الإخوة المؤمنين يجلس مسترخياً، يقرأ كتاباً روحياً عن حياة الرسول بولس. وعندما انبعثت الصرخات خارج وداخل القطار، ظل هذا الأخ هادئاً واثقاً مطمئناً رابط الجأش ولم يحرك ساكناً، واستمر في قراءة كتابه. وبعدما خلت العربة أو كادت من ركابها، وضع الكتاب على المقعد الخالي بجواره، ثم قام من مكانه ومشى بخطوات هادئة نحو باب العربة ينظر حوله، ثم يسأل الواقفين على الرصيف: ما الذي يحدث؟
- الجرار يحترق، وهم يحاولون اطفاءه وفصله عن القطار.
فإذا بالأخ يهز رأسه ثم يعود إلى مكانه في القطار، ليعاود الجلوس باسترخاء في مقعده، ويواصل قراءة كتابه.
وبعدما تم استبدال الجرار وواصل القطار مسيره، اقتربت من هذا الأخ المؤمن وسألته: من أين لك هذا؟! .. من أين لك هذا الهدوء الواثق، والسلام والاطمئنان ورباطة الجأش وراحة البال؟!
أجابني: صدقني، أنه في نفس اللحظة التي بدأت فيها صرخات التحذير والفزع، وقبل أن يستولي الإنزعاج عليَّ، وقبل أن يملك القلق زمامي، وقبل أن تتلفت عيني إلى هنا وهناك.. قبل هذا كله، سمعت صوتاً يرن في أعماق نفسي وقلبي، صوتاً يخترق أعماق كياني، قلباً وتفكيراً، قائلاً «لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك» (إشعياء41: 10). صوتاً شجياً، رقيقاً وعذباً؛ إنه «صوت حبيبي» (نشيد2: 8)، صوت الراعي المحب الذي أستطيع أن أميّزه عن صوت الغريب (يوحنا10: 4 ،5). وفي صوته حزم قاطع لا مثيل له، فأي كلمة تخرج من فمه هي الكلمة النهائية والقول الفصل، ولا يمكن أن تُرَد أو تُراجَع، وكلمته بالنسبة لي «روح وحياة» (يوحنا6: 36). لقد شعرت في الحال أنه قريب مني جداً، أنه يقف إلى جواري للحماية والحراسة وليضمن لي السلامة. وكان هذا كفيل بأن يمحو في الحال مخاوفي وكل الأفكار المقلقة، فوجدت عزاء وطماناً لقلبي الواجف. بل وامتلأ قلبي بالسلام والفرح والثقة في «ربي وإلهي»، الذي لم يسمح للانزعاج والقلق أن يسيطرا على فكري. لقد تعطّر كياني كله بالشعور بأن الله القدير هو إلهي الذي معي، و«لا تخف» الخارجة من فمه عملت عملها في نفسي وفي قلبي، بل وشعرت أن الأذرع الأبدية تحتضنني.
عزيزي.. ما أرّق قلب الرب وما أحن عواطفه!! كم هو قريب منا ليحمينا، وهو يستطيع أن يمدنا بمعونة غير منتظرة في اللحظة التي نحتاج فيها إليه. إنه يسمعنا. بل ويلذ له أن يكون معنا. إنه يحبنا لدرجة أنه لا يستطيع أن يتركنا لحظة واحدة. وما أحلى وما أجمل أن يستقر هذا الحق في قرارة نفوسنا، وهو أن الرب لا يتركنا، لا لأنه يريد حمايتنا وحراستنا فقط، بل لكي يتلذذ بنا. وأليس عجيباً أن الرب الذي «كله مشتهيات» (نشيد5: 16) يتلذذ بنا أكثر مما نتلذذ نحن به؟!
نعم.. قد تنسى الأم رضيعها، أما الرب فلا ينسانا، لأنه لا يشغله شيء عنا. في وقت الألم هو معنا، في وقت الخطر هو ملازمنا، وعندما يحيط بنا الأشرار هو يدافع عنا، وحتى في ساعة الموت لا يتركنا.
عزيزي هل تصلي معي هذه الصلاة: «أيها الرب يسوع أعِن ضعف إيماني.. افتح عيني فأراك أمامي في كل حين لأنك عن يميني فلا أتزعزع.. أعطني أن أراك متمشياً معي، مطفئاً قوة نار الأتون المحماة سبعة أضعاف.. هب لي أن أراك مُرسلاً ملاكك ليسد أفواه الأسود التي حولي.. أعطني أن أراك وقد دُفع إليك كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وأنك أنت بنفسك معي كل الأيام إلى انقضاء الدهر، فأستطيع أن أسير في طريقي بقلب فرح مبتهج مملوء بالسلام والهدوء.. آمين».