ليس من الأمانة أن نكتب عن أمانة المسيح ومحبته، دون أن نكتب عن غضبه ودينونته. لقد كان يوسف بن يعقوب أميناً في تفسيره لحلمي الساقي والخباز، إذ أخبر الساقي أن الملك سيعفو عنه ويرفع رأسه، وأخبر الخباز بأن الملك سيعلقه على خشبة ويقطع رأسه. فالمسيح الذي قال «الرب مسحني لأبشر المساكين... لأعصب منكسري القلب... لأنادي بسنة مقبولة للرب»، قال أيضاً وأنادي «بيوم انتقام لإلهنا» (إشعياء61: 1-2).
ولو أن الدينونة والسخط هي فعله وعمله الغريب (إشعياء28: 21) إلا أنه «وُضِع للناس أن يموتوا مرة، ثم بعد ذلك الدينونة» (عبرانيين9: 27). والمسيح هو ديّان الأحياء والأموات، فالذي خلق العالم وأحبه واشتراه هو بذاته الذي يدينه.
محام أم قاض:
منذ طفولتهما المبكرة كانا صديقين حميمين، ففي عمارة واحدة سكنا، وفي نفس الحارة لعبا، وفي ذات السيارة إلى المدرسة ذهبا؛ لكن تعثر الواحد وتفوق الآخر، حتى صار المتفوق محامياً ناجحاً، أما الآخر فقد فشل في تعلم أي فضيلة، وغاص في أوحال الشر والرذيلة. وفي إحدى نزواته، ارتكب جريمة بشعة، عقوبتها الإعدام. فأخذ يبحث عن صديقه القديم ليدافع عنه، وبينما هو يبحث عنه، وجد يافطة كبيرة ومضيئة وعليها اسم الصديق القديم، طرق باب مكتبه، وسُمح له بالدخول. لم يعرفه المحامي في بادئ الأمر، فملابسه مهلهلة ومنظره قذر، عرف قصته، وترافع في قضيته، وفي يوم القضية، دافع عنه ببراعة، حتى انتزع من القضاء البراءة.
وعند خروجهما قال المحامي لصديقه القديم: أرجو أن تكون هذه هي آخر مرة.. وتذكر أنه “مش كل مرة تسلم الجرة”.
مرت الأيام ولم يتعلم صاحبنا الدرس، وارتكب جريمة سرقة، وأسرع إلى صديقه المحامي. وبدافع العشرة والصداقة، دافع عنه مرة أخرى وأخرجه من ورطته، وحكم القاضي ببراءته. وهنا قال له المحامي: “إن المذكرات التي دافعت عنك بها، قد جعلتك بريئاً في عين القضاء، ولكن أشك أنها تبرئك أمام عدالة السماء”. انصرف المحامي دون أن يودّعه كعادته.
ودارت عجلة الزمان كعادتها، وأصبح المحامي قاضياً، فغير محل إقامته، وعاد الشرير إلى شره، ولم تبرح عنه حماقته، وعاد إلى صديقه المحامي ليدافع عنه كما تعوَّد. لكن لم يجده هذه المرة، ووجد اليافطة وقد رُفِعت. عرف من الجيران عنوانه الجديد، ذهب إليه، طرق بابه، ففتح القاضي، وإذ بالصديق القديم يتمسكن ويتوسل. فقاطعه القاضي بحدة وقال له: كنت بالأمس محاميك، أدافع عنك، وأحميك، أما اليوم ففي نفس الدائرة، سأحكم عليك، في السجن سأرميك، وإن كنت تستحق الإعدام، فلن أشفق عليك ولن أرثيك. وأغلق في وجهه الباب بعنفٍ وصرامة.
عزيزي القارئ.. وعزيزتي القارئة:
إن المسيح اليوم حمل وديع عطوف ورؤوف لكن غداً سيغضب ومن يستطيع الوقوف.
إن المسيح اليوم يحامي ويخلِّص ويرحم المذنبين لكن غداً سيقضي وعلى العرش يجلس ويدين.
إن المسيح اليوم فمه تنسكب منه النعمة والخلاص لكن غداً سيخرج منه سيف القصاص.
إن المسيح اليوم يده ممدودة للإنقاذ والفداء لكن غداً ستمتد للهلاك والقضاء.
كيف يكون هذا؟
ورُبَّ سائلٍ يسأل، كيف يكون هذا؟ أليس الله هو إله المراحم، فكيف تصورونه بهذا التشبيه القاسي؟ والجواب هو:
هل نسيت أن الله أظهر نعمته ومحبته وطول آناته.
وهل نسيت أن الله يكره الخطية، وعندما تحملها المسيح على الصليب لم يشفق عليه، فهل سيشفق على الإنسان العاصي الذي يرفض النعمة؟
«فهوذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف» (رومية11: 22).
وتذكر أن مدة النعمة سنة، بينما مدة النقمة يوم (إشعياء61: 2).
لكن لماذا المسيح هو الذي يدين؟
المسيح باعتباره ابن الإنسان، فالذي أخلى نفسه صار في شبه الناس، وكابن الإنسان تحمَّل الدينونة.. لذلك سيدين كابن الإنسان.
وأخيراً أعزائي:
إن خير ما نختم به مقالنا بل وهذه السلسلة «لماذا المسيح؟» هو قول الكتاب: «الذي يؤمن به لا يُدان. والذي لا يؤمن قد دِين» (يوحنا3: 18).
إن البشر اليوم فريقان: فريق يؤمن وفريق لا يؤمن. والمسيح اليوم محام لكن غداً سيجلس على عرش القضاء (رؤيا20: 11)....
فأين تريد أن تقف؟
ويل الخطاة الأشقيا مما مضى
في حين تُنصَب الكراسي للقضا
فتضيق فيهم ثَمَّ ساحات القضا
فيريعهم غضبُ الإله ولا الرضا
ويقول كلَّ يا جبال غطيني