ما أن أنهت «نبيلة» دراستها الجامعية وتزوجت وأنجبت طفلها الوحيد، حتى بدأت أزمات «الربو» تهاجمها بضراوة، واضطُر الأطباء إلى علاجها بجرعات متزايدة من «الكورتيزون» الذي سبَّب لها هشاشة شديدة بالعظام، مما أفسح المجال أمام مرض «الروماتويد» لكي ينشب أظافره بوحشية في جميع مناطق جسمها بما فيها مفاصل العمود الفقري.. وفي غضون سنوات معدودة كانت قد تشوهت وتيبَّست جميع مفاصل جسمها وأصبحت حركتها شبه مستحيلة.
وفي شهر مارس 1999 أُدخِلت المستشفى لمدة شهر لإجراء أربع عمليات جراحية لاستبدال مفصلي الركبتين ومفصلي الفخذين. وكانت النتيجة: لا شيء. فقد فشلت كل هذه العمليات لتخرج بعدها من المستشفى: ضعيفة، نحيلة، مغطاة بالكثير من قروح الفراش، يغمرها الأسى واليأس والكآبة.
ثم عاودت نبيلة الدخول إلى المستشفى لتقضي شهراً آخر في العناية المُركزة للعلاج من «تسمم دموي» وارتفاع حاد في درجة الحرارة نتج عن «قروح الفراش». وخرجت من المستشفى بعد أن حُكم عليها أن تقضي ما بقى من عمرها حبيسة الفراش، غير قادرة على الاهتمام حتى بأبسط حاجتها الشخصية. وضاعفت دموع الحنق والخوف والفشل من قنوطها. ولم تعد تقوى على التحمل أكثر، وبلغ الصبر نهايته. وصارت حياتها عبارة عن نوبات من الأسى والرثاء للذات، وصار سؤالها الدائم: لماذا يا رب؟! لماذا؟!
وعلى مقربة منها كانت تسكن أخت مؤمنة فاضلة، كانت تخرج من محضر الله، بعد أن تقضي أوقاتاً طويلة في الصلاة من أجلها، لتذهب إليها لتحدثها عن نعمة الله ومحبته التي تبحث عنها لتحزمها في حزمة الحياة، وترفعها فوق الآلام والأمراض.
- الرب بيحبني!! وهل ما أصابني دليلاً على محبة الرب ليَّ؟!
- إن كل ما أصابك ليس دليلاً على عدم محبة الله لكِ، إنما الدليل الأكيد على محبة الله لكِ أنه بذل ابنه لأجلك، وأن ابن الله أحبك وأسْلَمَ نفسه لأجلك (رومية8: 32؛ غلاطية2: 20).
- وماذا عن كل ما أصابني؟!
- إنها بعض من أعمال العناية الإلهية. إنها أمواج تدفع سفينة حياتك إلى شاطئ النجاة، حتى تشعرين باحتياجك الشديد للرب يسوع المسيح فتلجئين إليه بالإيمان. وعندما نوضَع في الفراش، فهذا واحد من «كل الأشياء» التي تعمل معاً للخير (رومية8: 28). فإننا عندما نكون سائرين على أقدامنا في وضع رأسي، نرى الأشياء التي حولنا فقط، ولا نرى الأشياء التي فوقنا. لذلك أحياناً يضعنا الله على ظهورنا في وضع أفقي، لنستطيع أن ننظر إلى فوق ونتأمل في الله وفي محبته وطرقه الحكيمة معاً، واحتياجنا الشديد لنعمته.. ويا له من غرض مبارك!!
- أ يمكن أن يكون ما أنا فيه خير؟!
- إننا كثيراً ما نميل إلى تفسير الخير من مفهوم الراحة الجسدية، فالخير في رأينا هو ألا نُصاب بأي داء، وألا تُمس أجسادنا بأي ألم، أن تكون جيوبنا ملأى بالنقود، أن نسكن في منازل عصرية، وأن نلبس أفخر الألبسة. وهكذا نعتبر الراحة والخير شيئين متعادلين. ويا له من خطأ كبير!!
- وما هي طبيعة الخير الذي تقصدينه؟
- الخير هو أن ننال القبول الأبدي أمام الله أذ نأتي إلى الرب يسوع المسيح بالإيمان، وأن نكون مشابهين صورة ابن الله الأدبية (رومية8: 29). وأن كل ما يساعد المؤمن على جعله شبيهاً بالمسيح هو خير، بصرف النظر عن تأثير ذلك على راحته أو صحته أو سروره. نبيلة.. إن الله يبحث عنكِ ويطلبك ليخلِّصك.. إنه لطيف فلا يقسو، وحكيم فلا يخطئ.. ولا تستطيع أيّة ظروف أخرى أن تُنجح خطة الله أو تأتيك بالخير الأسمى على نحو أفضل من ظروفك الراهنة.. فتعالي إلى المسيح.. ارتمي عليه بالإيمان لينهي ماضيك.. ويضمن مستقبلك.. ولكي يتكفل بنعمته بحاضرك.. إنه كفء لكل الظروف.. ولا أحد يستطيع أن يملأ احتياجك من كل وجه سوى الرب يسوع المسيح. وتوالت الزيارات، وكان الروح القدس عاملاً يجاهد مع نبيلة ليفتح قلبها لتصغي (أعمال16: 14)، وليفتح ذهنها لتفهم المكتوب (لوقا24: 45).
وفي أحد أيام شهر مارس 2000، استيقظت نبيلة من نومها مبكِّراً. وبدا وكأن هناك شخصاً يتحدث إليها بصوت عميق، يبعث الطمأنينة، قائلاً لها: «تعالي.. تعالي إلى الرب يسوع المسيح لكي يريحك.. لقد أحبك إلى درجة أنه مات لأجلك.. إنه يعرف كل ما تُعاني منه.. إنه يعرف ما يعنيه عدم قدرة المرء على الحركة، فقد قضى ساعات رهيبة في صراع عنيف، مُسمَّراً فوق الصليب، دون عون، مكتوفاً لا يقوى على الحركة، منتظراً الموت.. إنه يعرف معنى آلام العظام الرهيبة، فعندما كان على الصليب، أرسل الله ناراً من العُلاء فسرت في عظامه (مراثي1: 13).. وهو الآن الكاهن العظيم الذي اجتاز السماوات، القادر أن يُشفق ويرثي لضعفنا، فهو الذي خضع مثلنا لكل تجربة، وفيما هو قد تألم مجرَّباً يقدِر أن يعين المجرَّبين (عبرانيين2: 18؛ 4: 14،15).. أنتِ تحتاجين إليه.. تعالي إليه.. الآن تعالي إليه.. ارتمي في حضنه بالإيمان...».
أحبائي... لقد كان الروح القدس يتكلم إلى قلبها وإلى ضميرها.. وتجاوبت نبيلة، فصرخت من أعماقها: «يا رب يسوع المسيح أنا عاجزة.. أنا تايهة.. أنا محتاجة لك.. أنا عايزاك.. أنا عايزة أتعرف بيك.. سامحني على كل حاجة عملتها.. ارحمني.. اقبلني.. خلِّصني.. أرجوك أدخل إلى حياتي واعمل فيها حاجة تخليني أخدمك وأتعلم كلمتك».
ووُلدت نبيلة من جديد في هذا الصباح. وعندما ذَهبتُ لزيارتها، وجدت «جلد وجهها يلمع» (خروج34: 29،30) وكان البريق الذي يشع من عينها، والابتسامة التي لا تفارق وجهها تؤكد صدق ما قالته لي: «لقد عرِفتُ المسيح، مَنْ يملأ احتياجي من كل وجه؛ فلي فيه حياة أبدية، ومحبة لا تُسبر أغوارها، ورجاء لا يخزى، وسلام يفوق كل عقل، وفرح يرتفع فوق الصعوبات، وقوة لا تضعف، ونور لا تغشاه ظلمة، وسعادة لا تهتز بالأحداث. لي فيه موارد لا تنفد، وينابيع لا تنضب ولا تجف، وهو نفسه كل شيء لي.. إنني ما عُدت أقلق من جهة الغد، فالله فيه كل الكفاية لمواجهة الغد وظروفه، نهاره وليله».
واستطردت نبيلة قائلة: اخبر أصدقاء «نحو الهدف» أنه إن كان لنا المسيح فلنا كل شيء، وإذا لم يكن لنا المسيح فلا شيء لنا. المسيح مع الأمراض هو الصحة كاملة. المسيح مع الأغلال هو الحرية بعينها. المسيح بدون أي شيء آخر هو الغنى الجزيل. وكل شيء بدونه هو الفقر المُدقع. واطلب منهم أن يصلّوا من أجلي.
عزيزي... هل تمتعت بهذه النعمة الغنية المتفاضلة؟!