تعوّدنا، كبشر، أن نعيش بقوة لحظات الحاضر بكل جوانبها الفكرية والانفعالية، هذا في الوقت الذي فيه يصعب علينا أن نعيش بنفس القوة لحظات من الماضي نستدعيها من مخزون الذاكرة. لكن مع هذا، يبقى أن هناك لحظات في الماضي شُرِّفت بمواقف معيَّنة، لفرط قوتها، ليس فقط يسهل علينا استدعاؤها من سراديب الذاكرة وغياهبها، بل إذا استدعيناها نجدها ماثلة أمامنا بكل حجمها، حتى أنه يمكننا أن نعيشها مرة أخرى بكل جوانبها الفكرية والانفعالية كأنها حدثت الآن وليس منذ زمان.
والآن، عندما أمسك بيدي تلك الزهرة الجميلة التي تُزيّن بستان مطبوعاتنا، وأقلِّب بَتَلاتها الرقيقة، أقصد صفحاتها الأنيقة، يخترق على الفور عبير رائحتها مخازن ذاكرتي، ليستدعي منها تلك اللحظات الجميلة التي عشتها مع أول اجتماع تقرَّر فيه إصدار مجلة نحو الهدف.
كانت المائدة مستطيلة في قاعة أنيقة نظيفة، ومفرشها الأبيض الجميل وُضعت عليه، بترتيب وإتقان، ملفات وأقلام تنتظر فكر الجالسين وعملهم. وعلى رأس المائدة جلس الأخ الحبيب يوسف رياض وبجواره أخي وصديقي العزيز عصام خليل، وطرحوا علينا فكرة إنشاء مجلة جديدة موجَّهة للشباب الناشئ، وطلبوا منا اقتراحاتنا لأبوابها وما يمكننا أن نلتزم به في كتابة مقالاتها. وكنا وقتها مجموعة من الخادمين أصحاب الاهتمام بالخدمة وسط الشباب.
وبعد انتهاء الاجتماع، وفي طريق عودتي للإسكندرية، وبينما القطار ينهب الأرض نهبًا وصوت صرير عجلاته يدوي، وبينما أنا غارق في تأملي الحقول الخضراء منتشيًا بروعة إتقان الخالق لأعمال يديه، أسبحه وأناجيه، فجأة قفزت لحظات الاجتماع أمامي واقتحمت عليَّ خلوتي، وجذبتني بشدة إليها لأعيش معها لحظات من الفرح والبهجة، وفاض قلبي بالشكر للرب ورددت في نفسي قائلا: أخيرًا هناك نظام واحترام للعمل، أخيرًا هناك عمل جاد يُعمل بناء على رؤيا، أخيرًا صار هناك حلم وخطة لتحقيق الحلم، شكرًا لك يا رب.
وتوالت اجتماعات هيئة التحرير، وفي كل مرة نفس النظام الجميل، إحصاءات دقيقة، ومؤشرات تعني الكثير، ومراجعة للنفس في كل ما يُكتب، وطرح لما يمكن أن يُعمل، ومناقشة كل كاتب فيما يكتب، وعرض لآراء القراء، وتفكير في ما ينقصنا، وخطط لزيادة التوزيع، وغيرها الكثير في هذه الاتجاهات.بل ووصل الأمر لمؤتمر ثلاثة أيام للمحررين تُقدَّم فيه لنا محاضرات من أناس متخصصين في الصحافة واللغة واستخدام الكومبيوتر.
باختصار، كان العمل في "نحو الهدف" خبرة جديدة بالنسبة لنا جميعًا في مجال العمل الروحي، خبرة حفرت خطوطها بقوة في ذاكرتي، وأخذت مكانها اللائق بها وقبعت فيه ولم تبرحه حتى الآن.
والآن، وأنا أتذكر هذا، أستطيع أن أقول: كانت لحظات الاجتماع الأول هذه هي لحظات ولادة "نحو الهدف"، لكن كما نعلم جميعنا أن قبل الولادة هناك بلا شك حمل طويل ومخاض كثير.
ولذلك أراني الآن راغبًا في أن أعود للذاكرة مرة أخرى لأستدعي منها لحظات أخرى لا أنساها، تسبق ولادة نحو الهدف بحوالي ست سنوات، ففي نهاية عام 87 كنت مجندًا بالقاهرة، وألقى عليَّ وقتها الأخ الحبيب الراحل زكريا اسكندر مسئولية مجلة رسالة الشباب، وإذ شعرت بثقل مسئوليتها لم أجد شريكًا يعينني سوى أخي الحبيب عصام خليل، وقد كان نعم الشريك المخلص. وأثناء عملنا معًا كان لا يمل، في حديثه معي، من أن يقُصّ عليَّ حلمه بأن يكون عندنا مجلة متخصصة في خدمة الشباب الناشئ وموجَّهة لهم. وقد كانت هذه الرؤيا نابعة من كثرة احتكاكه بهم وتعايشه معهم، فقد كانوا، وما زالوا، بالنسبة له هم أهله وعائلته بل وكل حياته. وإذ لم تتوفر له الفرصة وقتها ولا الإمكانيات لتحقيق رؤياه، ابتدأ على استحياء يصدر مجلة محلية للشباب الناشئ في مصر الجديدة، كانت صغيرة في حجمها، بسيطة في أسلوب طباعتها. وبالطبع لم تكن هي التي تروي غليله ولا هي الحلم الذي يحلم بتحقيقه، لكنها كانت بالنسبة له مجرد قطرات ماء تطفئ لظى الأشواق لمجلة للشباب الناشئ تخدم لا اجتماع، ولا قطر، بل كل الناطقين بالعربية في كل ربوع الأرض.
وعندما جاء الميعاد، طبقًا لأجندة ملك الدهور صاحب السلطان على الأزمنة والأوقات، وجد عصام تشجيعًا قويًا ومساندة رائعة من الأخ الأكبر يوسف رياض، فاكتمل الجنين وزاد المخاض ووُلدت الجميلة "نحو الهدف"، والتففنا حولها نتأملها في مهدها؛ فإذ بها رائعة في شكلها غنية في محتواها. منظرها جميل، وشخصيتها واضحة، محدَّدة المعالم والقسمات، لا شبهة تقليد أو تزييف فيها بل جديدة وخلاّقة ومصرية حتى النخاع، فشكرنا الرب لأجلها.
وظل صاحب الرؤيا يرعاها ويبذل كل شيء، بكل الحب لأجلها، حتى اكتمل نضوجها وصارت الآن تقف نضرة باسقة وسط أشجار المطبوعات المسيحية العربية، تقف شامخة ممشوقة القوام عالية الهامة تفوق الجميع في مجالها. ولا يمكن لأي منصف أن ينكر دورها وأثرها على بقية مطبوعاتنا، فقد ألزمت الجميع بنهج منهج التطوير والتحديث ومسايرة ركب التكنولوجيا في الطباعة والتحرير، بل وفي أسلوب إدارتها. شقت طريقًا ورسمت نموذجًا مثاليا لكل من احتك بها وتعامل معها، بل خلقت واقعًا جديدًا فرضته علينا وألزمت الكل به، ألا وهو أن المحتوى الجيد والمادة الكتابية الدسمة لا تغني أبدًا عن الشكل الجيد والعرض الجذاب.
والآن، وبعد مرور عشر سنوات أقف لأسترجع مع نفسي ومعكم درسًا طالما تعلمته كثيرًا من كلمة الله ألا وهو:
إنه لشيء رائع أن تكون عندنا أشواق وطاقات مقدَّسة للخدمة، وإنه لشيء أروع أن تكون دوافعنا التي خلقت هذه الأشواق والطاقات دوافع نقية مخلِصة، لكن الأروع من هذه ومن تلك هو وجود الرؤيا التي تُصَبّ فيها هذه الأشواق والتي تستوعب هذه الطاقات، فبدون رؤيا وخطة لتحقيق الرؤيا، تُهدر الطاقات وتضيع الإمكانيات ولا يبقى لنا إلا النوم، أو في أحسن الأحوال بناء العشوائيات. لكن من يتأمل كلمة الله بإمعان سيجد أن كل عمل عظيم عمله الله كان دائمًا وراءه رؤيا، أو بلغة أدق: كان وراءه رجل عنده رؤيا.