رجل أعمال مشهور، لم يتجاوز الأربعين من عمره، ناجح وواسع الثراء، من أسرة عريقة في المجتمع. يملك كل أسباب الحياة الرغدة وكل أسباب المتعة الدنيوية بأنواعها. أُصيب بهوس وجنون البحث عن الفنانات والمطربات والزواج منهن، ثم طلاقهن بعد ذلك. وفي ليلة ليلاء، في شقته الفاخرة في أحد أحياء القاهرة الراقية، اجتمع رباعي الفساد والضياع في مشهد واحد: المال والخمر والنساء والسلاح، فكان ما كان: ارتكب مجزرة أطلق فيها 86 رصاصة من مدفعه الرشاش على زوجته المطربة المعروفة، ومدير أعماله وزوجته. ثم أطلق رصاصة من مسدسه على نفسه، وضعت خاتمة مأساوية لحياة حافلة ومليئة بالمهازل والاستهتار، بالإسراف والسفه، بالزواج والطلاق.
عرفت القصة، ويومها تذكّرت «لامك بن متوشائيل من نسل قايين» (تكوين4: 17- 24) الذي كان رجلاً عنيفًا عاتيًا، حاول أن يدلِّل على حقيقة اسمه «لامك»، الذي معناه “شاب قوي”، بكونه رجلاً مزواجًا وقاتلاً في آن معًا، متفاخرًا بقوته الجسدية وبشراسته في حديثه لامرأتيه. أما عن أوجه التشابه فأقول:
- كان لامك من نسل قايين.. وكان قايين أول مولود في العالم، وأول متدين، وأول قاتل!! فهو بِكر آدم وحواء، ولقد تجاهل الخطية والسقوط، وحاول الاقتراب إلى الله بثمر تعبه وثمر الأرض التي لعنها الرب، فلم يقبله الرب ولا قبِل قربانه، لأن الإنسان الساقط لا يمكن أن يقترب إلى الله إلا في استحقاق الذبيحة التي يقبلها الله. ولم تُجدِ محاولة الله، في غنى نعمته، أن يقنعه بأنه خاطئ، يحتاج من جانبه إلى توبة، ويحتاج من جانب الله إلى رحمة على أساس الذبيحة؛ ولكن هذا البار في عيني نفسه قام على هابيل أخيه وقتله. وهكذا خرج طريدًا من محضر الله. وفي أرض «نود» أي “التيهان” بنى مدينة ودعاها باسم ابنه «حنوك»، وكأنه بهذا العمل يقصد تحدي الله ورفض حُكمه عليه بالتشرد والتيهان.
وفي العهد الجديد يؤخذ قايين كمثال للشر وفعل الإرادة الذاتية (1يوحنا3: 12، يه11) وديانته صورة لديانة الإنسان على مدى العصور، التي تفرض الاقتراب إلى الله بدون ذبيحة دموية، كأنه لم يحدث سقوط ولا خطية.
وكان هذا الشبل من ذاك الأسد.. كان «لامك» هو «السابع من آدم من نسل قايين»، وفي لامك هذا بلغ نسل قايين ذروة الابتعاد عن الله والاتكال على الذات، وذروة السلوك في طريق الإرادة الذاتية وقساوة القلب وعدم التوبة مستهينا بغنى لطف الله وإمهاله وطول أناته عليه في شهوانيته ووحشيته.
- لامك هو أول من نقض الترتيب الإلهي في الزواج، إذ لم يقنع بزوجة واحدة، بل كانت له اثنتان، وبذلك كان أول مَنْ أدخل مبدأ تعدد الزوجات، «ولكن من البدء لم يكن هكذا» (متى19: 3-9).
- وكان اسم امرأته الأولى «عَادَةُ» ومعناه “حلية” أو “زينة” أو “متعة” واسم الأخرى «صلَّة» ومعناه “صليل” أو “رنين” ويفسره البعض بمعنى “صليل صوت الموسيقى” أو “عازفة” أو “موسيقية”!! ويدل الاسمان على شهوة العين وشهوة الأذن، النظر والسمع، اللذين خَلبا لُبّه وسحرا قلبه.
- وكلمات لامك لزوجتيه هي أول وأقدم قصيدة شعرية دُوِّنت في الكتاب المقدس، قصيدة مكونة من ثلاث أبيات شعرية، كل بيت فيها شطرين:
عَادَة وَصلَّة اسمعا أقوالي
يا امرأتي لاَمَك أصغيا لكلامي
فإني قَتَلْتُ رَجُلاً لجُرحي
وقَتَلْتُ أيضًا فَتًى لشَدخي
إن كان لقايين ينُتَقَمُ سبعة أضعافٍ
فإن للامك سينُتَقَمُ سبعةً وسبعين
وللأسف أن الله لم يكن موضوع وغاية هذه القصيدة الشعرية، بل الذات والافتخار، يتفخر لامك بوحشيته وشراسته وبأنه كان قاتلاً ولأتفه الأسباب. وهناك تفسيران للشعر الذي ذكره لزوجتيه:
أولاً: أنه يتفاخر بحادث وقع فعلاً، ويبرِّر جريمة القتل التي ارتكبها بأنه كان يدافع عن نفسه، وينتقم بقتل الذين تسببوا في جرح شعوره ولو بجراح بسيطة.
ثانيًا: أنه يهدِّد كل من يخطر بباله أن يعتدي عليه. فهو لا يسلّم أموره لله ويضع ثقته فيه، بل امتلأ بالثقة في نفسه، فيعلن أنه ليس في حاجة للاستفادة من الحماية الإلهية التي قدّمها الرب لجدّه قايين، بل يتكل على نفسه وعلى الأسلحة من النحاس والحديد التي اخترعها أولاده، وكأن هذه الأسلحة التي عززت قدرات الإنسان الجسمانية، قد أصبحت إلهه الذي يتكل عليه. فإن كان ينُتقم لقايين سبعة أضعاف، فإنه ينُتقم للامك سبعة وسبعين.
فيفيا للغرور!! ويا للغطرسة!! ويا للشهوة للانتقام!! (قارن من فضلك متى18: 21،22).
- وأسماء بنيه هي «نَعْمَةٌ» ومعناه “جميلة” أو “حلاوة”. و«يابال» الذي كان أبًا لساكني الخيام ورعاة المواشي، ومعناه “رحّالة” وفيه نرى صورة العالم التجاري، وسعي الإنسان وراء رزقه وتنقّله من مكان إلى مكان لكسب القوت. و«يوبال» الذي كان أبًا لكل ضاربٍ بالعود والمزمار، ومعناه “نفخ البوق” وفيه نرى صورة لعالم الفن والطرب والموسيقى. و«توبال قايين» وهو الضارب لكل آلة من نحاسٍ وحديدٍ، ومعناه “العامل في التبر” وفيه نجد بداية الصناعة والاختراعات التي حوّلت إعجاب الناس إلى الناس واختراعاتهم.
ففي حين أن «يابال» قد وضع الناس على طريق الثروة، فإن «يوبال» قد وضعهم على طريق اللهو والمرح والعبث، بينما وفّر لهم «توبال قايين» حياة الترف والرفاهية وتعظّم المعيشة؛ وهكذا أصبح الطريق مفتوحًا للاستقلال عن الله. وبهذا الثلاثي السابع من قايين الشرير، اكتملت ملامح العالم، أي ذلك النظام الذي أسّسه الشيطان وزيَّنه، لتقديم البديل للإنسان الساقط المطرود من الجنة، لينسيه عار الخطية ووصمة التشرد، وليضمن بقاءه بعيدًا عن الله. وهذا كله في أرض «نود» أي “التيهان”، أرض الهروب من الرب والتيهان والتشرد بعيدًا. ولكن يا لبئس المصير!! ففي وسط هؤلاء اللاهين عن الله يرن صوت القضاء «ويل لكم أيها الضَّاحكون الآن، لأنكم ستحزنُون وتبكُون» (لوقا6: 25).
أحبائي.. «لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم» هذا هو تحذير الروح القدس (1يوحنا2: 15). العالم يُعطي أحسن ما عنده أولاً، ثم تكون العاقبة مُحزنة، العالم يعطي ضحكًا يعقبه البكاء، وفرحًا ينتهي بحزن، ومسرات آخرها آلام، وآمالاً برّاقة تنتهي بيأس وخيبة. أما الرب يسوع المسيح فيعطي عطايا جيدة في الأول تزداد مع الزمن، يعطي لذَّات تزداد حلاوتها بالاختبار، وأفراحًا تصير أعمق وأغزر مع السنين. ورجاءً يزداد لمعانًا إلى أن يتحقق إلى الأبد... ينابيع العالم تجف سريعًا أما ينابيع المسيح فلن تنضب...
فأقبِل إليه قبل فوات الأوان. أقبِل إلى ذاك الذي يستطيع أن يروي النفس ريًّا كاملاً وإلى الأبد.