سؤال وجّهه أيوب قديمًا لا إلى إنسان مثله بل إلى الله. أليس هذا غريبًا؟! وهل نستغرب كيف نطق أيوب بهذا الكلام؟ لكن دعني أسألك بكل صراحة أ لم ينتابك شعورًا مماثلاً لهذا يومًا من الأيام؟ أ لم تشعر، ولو مرة واحدة، وكأن الله يخاصمك ويقف ضدك؟ أ لم تشعر يومًا أن الظروف الصعبة التي تجتازها لا تستحقها وأردت أن تقول لله أنك مظلوم، لكنك لا تتجرأ أن تُعبِر عن ذلك بصوت عالٍ؟!
لقد سبقك أيوب في ذلك بعد ما تعرض لأقصى أنواع المصائب والكوارث، سواء في حياته الشخصية أو العائلية (اقرأ أيوب1،2). حتى أنه عندما جاء أصحابه لتشجيعه وتعزيته، أصابهم الفزع والحزن الشديد ورفعوا أصواتهم بالبكاء وجلسوا على الأرض معه سبعة أيام لم يستطيعوا أن يكلموه بكلمة واحدة. بعد هذا فتح أيوب فمه وتفجّرت مرارة نفسه بأسئلة كثيرة، لم يستطع أصدقاءه تقديم أي إجابة صحيحة عليها، منها هذا السؤال الذي أمامنا.
دعونا نستعرض بعض الأسباب التي قادت أيوب للشعور بأن الله يقف ضده ويخاصمه، والتي قد تقودنا نحن أيضًا إلى ذلك:
1. قوة الآلام والمصائب التي أصابته:
لقد كان أيوب من أعظم رجال بني المشرق في وقته، ولكن في يوم واحد وقعت عليه كوارث ومصائب أنهت على ما يملكه، ثم مات أولاده وبناته جميعًا، وبعد ذلك أصيب بكل أنواع الأمراض والقروح من قدمه إلى هامته. وبعد أن تحمَّل كل هذا بصبر بدأ يفكِّر في الأسباب التي وراء ذلك، فلم يجد أي تفسير واضح. وهنا اعتبر أن الله يقف ضده فصرخ قائلاً: «ليت كَرْبي وزن.. لأن سهام القدير فيَّ.. أهوال الله مصطفّة ضدي» (6: 2-4).
2. الظن بأن البر الذاتي هو الأساس للحصول على بركات الله وخيراته:
لقد ظن أن بِرّه الشخصي والتزامه في الحياة وحيدانه عن الشر هو الأساس الذي عليه يقبَله الله ويباركه بحياة زمنية ناجحة. ولذلك شعر بأن الله ظالم عندما سمح بدخوله في هذه المصائب، وصرخ قائلاً «أ حسن عندك أن تظلم أن ترذل عمل يديك وتشرق على مشورة الأشرار... في علمك أني لست مذنبًا» (10: 3-7).
3. الظن بأن الذي يبعد عن الشر والخطأ لا يتعرض لأي نوع من المصائب والكوارث:
ظن أيوب أنه ما دام يسلك بالاستقامة الكاملة ويبعد عن الشر، فالنتيجة الطبيعية أن لا يتعرض لأي آلام أو مصائب من أي نوع، لذلك صرخ «ليزنّي في ميزان الحق، فيعرف الله كمالي. إن حَادَت خطواتي عن الطريق، وذهب قلبي وراء عينيَّ، أو لصق عيب بكفي، أزرع وغيري يأكل، وفروعي تُستأصل... من لي بمن يسمعني؟ هوذا امضائي. ليجبني القدير. ومن لي بشكوى كتبها خصمي» (اقرأ ص31).
4. تقييم أصحاب أيوب الخاطئ لما حدث له:
عندما أتى أصحابه الثلاثة لتعزيته ورأوا هول المصائب التي حلت به، حكموا عليه بطريقة خاطئة، ووضعوا مقاييس غير صحيحة لتقييم معاملات الله مع الإنسان، وأنه يستحق كل ما حدث له نتيجة خطأ ما سريًا أو علنيًا. لذلك زادوه تعبًا ومرارة (اقرأ مثلاً11: 14-16). وليس غريبًا عندئذ أن يقول عنهم أيوب «أما أنتم فملفقو كذب. أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتًا، يكون ذلك لكم حكمة» (13: 4).
هذه بعض من الأسباب التي قادت أيوب إلى حالة المرارة والألم النفسي والتساؤلات الخاطئة لله، فماذا كان موقف الله بالنسبة لأيوب؟ تعالَ نرى كيف أعلن الله نفسه لأيوب بطرق مختلفة (ص38-42):
1- الله كلي القدرة: هو الذي أسّس الأرض وصنعها بقدرته المطلقة، فهل يحدث شيئًا في الأرض رغمًا عنه أو بدون إذنه؟ (38: 1-7؛ 41: 1-10).
2- الله كلي المعرفة: فمهما سمت معرفة الإنسان وإدراكه لا تُعَد شيئًا بالنسبة لمعرفة الله، وسيظل الإنسان جاهلاً بالنسبة لله (38: 3-19).
3- الله كلي الحكمة: هل يمكن أن الله يعمل شيئًا ليس في محله؟ لننظر إلى الخليقة وكيف صنعها بحكمة فائقة فكيف يمكن أن ننسب له خطأ أو تقصيرًا في أي شيء يعمله في حياتنا؟ حاشا (38: 8؛ 41: 34).
4- الله كلي العدل: هل يمكن أن يخطئ الله في حُكمه وقراراته؟ إن مفاهيمنا قاصرة عن فهم أحكامه، فهو الكامل العدل الذي لا يحابي الوجوه (40: 1-8).
5- الله كلي التواجد: هل ترك الله الخليقة بعد أن خلقها؟ حاشا! فهو المتواجد في السر وفي العلن. إنه الذي يهيء للغراب صيده ولحيوان البرية بيوتًا، فهل يترك من له فريسةً في يد الشيطان ليفعل بهم ما يشأ؟ (38: 36-41)
هذا ما أعلنه الله عن نفسه لأيوب، فماذا كان موقف أيوب بعد ذلك؟ (اقرأ 40: 3-5؛ 42: 1-6)
1. أقرّ بخطئه في كل ما نسبه لله واعتذر عنه: «ها أنا حقير فماذا أجاوبك. وضعت يدي على فمي. مرة تكلمت فلا أجيب ومرتين فلا ازيد»
2. أقر بأنه تسرّع في حكمه على الأمور وأن معرفته ومقاييسه ناقصة لما يجري معه وحوله : «نطقت بما لم أفهم بعجائب فوقي لم أعرفها»
3. اكتشف قدرة الله غير المحدوده وعدله المطلق في كل ما يفعله «قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر فمن ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة»
4. اكتشف أن معرفته وعلاقته مع الله كانت ناقصة تفتقر إلى الاختبار الشخصي الحميم، وأن برّه الشخصي، مهما سما، لا يساوي شيئًا أمام هذا الإله العظيم فقال «بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد»
والآن ماذا عنك أنت؟ لا تستمع لشكوى إبليس مهما كانت الصعوبات والآلام التي تجتازها، واعلم أن هذا هو إلهك الذي قال بحق «لأني عرفت الأفكار التي أنا مُفتكر بها عنكم... أفكار سلام لا شر لأعطيكم آخرة ورجاء» (إرميا29: 11). لذلك تستطيع أن تهتف من القلب «ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعون حسب قصده» (رومية8: 28).