ليس سفر يونان قصة رمزية أو خيالية، كما تصوّر نُقّاد الكتاب المقدس والذين لا يقبلون الوحي الإلهي، لكنها قصة حقيقية لشخص حقيقي. ويكفينا شهادة المسيح نفسه «فأجاب وقال لهم (للكتبة والفريسيين) جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الانسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (متى12: 39، 40).
من هو يونان النبي؟
من القليل الذي ذُكر عنه نعرف أنه كان نبيًا لله، وقد تنبأ في أيام الملك يربعام بن يوآش (يربعام الثاني) ملك إسرائيل (2ملوك14: 25) في نحو القرن الثامن ق.م. وكلمة “يونان” تعني “حمامة”، لكنه للأسف كان حمامة رعناء؛ إذ لم يكن مطيعًا للرب في إرساليته. وكان من مدينة “جت حافر” في الجليل، وقد دعاه الرب ليحمل رسالة إنذار إلى نينوى عاصمة مملكة أشور. لكنه كان شديد التعصب لقوميته، فأبى أن يحمل رسالة من الله إلى أُمة وثنية، وحاول الهروب من الرب؛ لكن الرب أرجعه مرة أخرى لينفِّذ كلامه.
دروس من يونان
في سفر يونان لا نقرأ عن نبوات تنبأ بها، لكننا نجدد أحداثًا اجتاز فيها؛ ومنها نتعلم دروسًا عديدة:
أولاً: عن الله
- قصة يونان تكشف عن قلب الله الصالح المتجِّه بالإحسان لكل البشر، والذي لا يتقيّد بجنس معيَّن أو شعب معين، بعكس ما يظنه البعض، والدليل أنه أرسل نبيه خصيصًا لشعب شرير يعبد الأوثان وهو الشعب الأشوري. وكان الأشوريون في ذلك الوقت العدو اللدود لبني إسرائيل.
ألا يذكرنا هذا بقول الكتاب «أم الله لليهود فقط؟ أليس للأمم أيضًا؟ بلى للأمم أيضًا» (رومية3: 29).
- الله لا يُسرّ بهلاك الشرير، بل بأن يرجع عن طريقة فيرحمه الرب (حزقيال33: 11). لذا ففي مطلع السفر يقول الرب ليونان «قم اذهب إلى نينوى... ونادِ عليها، لأنه قد صعد شرهم أمامي» (1: 2). فبدلاً من أن يُنزل القضاء مباشرة أرسل محذِّرًا لعلهم يتوبوا. ويونان نفسه شهد عن الرب قائلاً «لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم، بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر» (4: 2). وتحقّق قول يونان، وقاد أهل نينوى للتوبة، وقَبِل توبتهم، ورفع عنهم القصاص فلم يُهلك المدينة.
- للّه سلطان على عناصر الطبيعة، وعلى كل الكائنات الحيّة ولا غرابة فهو «إله السماء الذي صنع البحر والبر» (1: 9). تأمل في العبارات التالية: «أرسل الرب ريحًا شديدة إلى البحر» «.. الرب فأعد حوتًا عظيمًا»، «أعد الرب الإله يقطينة»، «أعد الله دودة»، «الله أعد ريحًا شرقية حارة» (1: 4،17؛ 4: 6،7،8).
تُرى هل نُقِرّ نحن أيضًا بسلطانه علينا ونخضع لكل معاملاته؟
ثانيًا: عن يونان
- في هروب يونان إلى ترشيش، بدى وكأن كل الأمور سهلة مُيسرة. فالأجرة جاهزة، والسفينة مُقلعة؛ وكأنّ الله قد رتب كل شيء. لكن كانت مشيئة الله عكس ذلك تمامًا. إذًا لننتبه ولا نخدع أنفسنا، فإن عناية الله وسير الأمور بسلامة لا يعني دائمًا أننا في مشيئته. ولا يجوز لنا أن نندفع في رغبة ما، تتمشى مع أهوائنا، ونبصر بعض خطواتها سهلة وميسّرة فنظن أن هذه مصادقة من الله؛ بصرف النظر عن التيقن من إرادة الله والتأكد من طاعتنا لكلمته.
- أتعجب أن يونان الهارب تثقل بنوم عميق، حتى أتاه التوبيخ من الوثنيين. إنه لأمر محزن أن نرى بعض أولاد الله يفعلون في سقطاتهم ما لا يفعله أهل العالم. هل يمكن أن ينحدر المؤمن في بعض الأوقات فيسقط في أمور لا يسقط فيها غير المؤمن، ربما بدافع من الشهامة أو المروءة أو الرجولة؟!
- ما أبعد الفارق بين مؤمن يخاف الرب وآخر يخاف من الرب. أن مخافة الرب تمنح ثباتًا وشجاعة «في مخافة الرب ثقة شديدة» (أمثال14: 26). هكذا كان دانيآل قدام داريوس الملك الوثني إذ شهد بكل شجاعة «إلهي أرسل ملاكه وسدَّ أفواه الأسود فلم تضرّني، لأني وُجِدت بريئًا قدامه وقدامك أيضًا أيها الملك لم أفعل ذنبًا» (دانيآل6: 22). أما يونان الخائف من الرب والهارب منه فقد كان موقفه مُخجلاً قدام الوثنيين وهو يقول لهم «خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم، لأنني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم» (1: 12).
- المؤمن إما أن يكون سبب بركة أو سبب بلية للآخرين. فيونان، بسبب عصيانه للرب، كاد يؤدي بحياة كل من في السفينة. أما بولس فبسببه أنقذ الرب كل من كان في السفينة وكانوا جميعًا 276 نفسًا. تُرى أي تأثير نتركه في من هم معنا في سفينة حياتنا: أفراد الأسرة أو الزملاء أو الأقارب أو الجيران؟! هل نحن سبب بركة لهم، أم نجلب لهم متاعب؟
- إن التمركز حول الذات والانحصار في النفس هو السبب وراء الغم والكآبة التي تصيب الإنسان. فيونان، لأنه كان مشغولاً بكرامته الشخصية والقومية أكثر من مصير عشرات الآلاف من الناس، عانى من تقلبات شديدة في مزاجه بين الفرح العظيم والغم الشديد. لما ظهرت رحمة الله لأهل نينوى عند توبتهم «غَمّ ذلك يونان غمًا شديدًا»، فاغتاظ وصلَّى إلى الرب طالبا الموت لنفسه! ولما أعد له الرب يقطينة «فرح يونان فرحًا عظيمًا»، ثم لما ضربت الدودة اليقطينة ويبست وضربت الشمس على رأسه وذبل، طلب مرة أخرى الموت لنفسه وقال «موتي خير من حياتي»!
كم هي غريبة النفس البشرية في تذبذبها السريع وتقلّباتها المفاجئة، حتى في أفضل الناس. لكن متى تحررت النفس من قيود الذات، وركّزت في المسيح كغرض وهدف للحياة، عندئذ هدأت واستقرت، بل وفرحت أيضًا بكل ما يمجِّد الرب. هكذا كان الرسول بولس فَرحًا دائمًا، لأنه استطاع أن يقول «يتعظم المسيح في جسدي، سواء كان بحياة أم بموت» (فيلبي1: 20).