رأينا في العدد السابق كيف يؤثر الإيمان في العواطف، فيجعلها تأخذ مكانها الصحيح: تابعة للإدراك والمعرفة الصحيحة، وبالتالي أكثر اتزانًا وتعقلاً، وأيضًا أكثر نشاطً. وفي هذا العدد نناقش واحدة من أهم العواطف الإنسانية: عاطفة الحب؛ وهي أروع وأرقى وأقوى وأهم العواطف التي وضعها الله في داخل الإنسان. ومتى تمكّنت من الشخص، فهي أقوى العوامل المؤثرة على حياته والتي يمكن أن تغيّر سلوكه. لكن الحب الحقيقي ليس مجرد عاطفة، بل هو عملية عقلية إرادية، مبنية على الإدراك الواعي لفضائل المحبوب، وتقدير قيمته، والثقة فيه. كما أنه يحتاج إلى نضوج واستقرار عاطفي.
أنواع المحبة:
نقرأ في الكتاب المقدس عن أنواع كثيرة من المحبة، لكن ربما تندرج كلها تحت هذه الأنواع الثلاثة:
أولاً: المحبة الإنسانية
وهي المودة التي تخدم الاحتياجات الإنسانية الطبيعية، وتعطي طعمًا لعلاقاته المتنوعة. تُمارس في الروابط البشرية والعلاقات الإجتماعية وتزيد الأُلفة بينه وبين الآخرين. هي التي بها يحب الشخص المناظر الجذابة لأنها تسعده، وبها يحب أي إنسان أقاربه، وبها يحب الصديق صديقه، والصديقة صديقتها، نحب بها جيراننا والذين يعملون معن. هي أكثر أنواع المحبة إنتشارًا بين الناس، ولكنها تختلف من دائرة إلى أخرى. هي التي قال عنها الرب «إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك؟» (متى5: 46). فهذه محبة متبادلة تعطي على قدر ما تأخذ وتنظر - غالبًا - لاستحقاق المحبوب والعلاقة به. هذه المحبة موجودة في جميع الناس غير مؤمنين ومؤمنين.
ثانيًا: المحبة الغريزية
هذه محبة جسدية، والجسد في الإنسان الطبيعي هو المحرك الرئيسي له. الدافع ورائها هو إشباع الشهوات الحبية والغرائز. بها يسعى الإنسان جاهدًا ويتعلق ويحب كل ما يشبع مطاليبه الداخلية وغرائزه ويعود عليه بالمنفعة. هي محبة أنانية تأخذ ولا تعطي، لأن بها يحب الشخص نفسه أكثر من أي شيء آخر. وهي التي تكلم عنها الكتاب «لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم، محبين للمال... محبين للذّات دون محبة الله» (2تيموثاوس3: 2-4). وهي المحبة التي بها أحب أمنون (ابن داود) ثامار أخته (2صموئيل13: 1 ، 2)، وبعد تحقيق غرضه منها أبغضها جدً. هذه المحبة أيضًا في جميع الناس غير مؤمنين، وحتى في المؤمنين نظرًا لوجود الجسد فيهم.
ثالثًا: المحبة الإلهية
هذه نوعية سامية من المحبة موجودة في الله، والتي بها « أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد » (يوحنا3: 16). هي المحبة التي تعطي ولا تطالب أو تريد أن تأخذ، ولا تنظر مطلقًا لاستحقاق المحبوب من عدمه. لقد ظهرت هذه المحبة في حياة المسيح على الأرض، فقد أحب الخطاة وخدمهم، وظهرت في صليبه حيث مات لأجلهم. هي التي بها نحب الله، ونحب بعضنا بعضً. هذه المحبة موجودة في المؤمنين فقط، لأن محبة الله انسكبت في قلوبهم (رومية5: 5).
المحبة في كيان الإنسان تعمل كسبيكة مكونة من الأنواع السابقة، وإن كانت هذه السبيكة في غير المؤمنين تتكون من النوعين الأول والثاني فقط، ففي المؤمنين والمؤمنات هذه الأنواع الثلاثة تكوِّن سبيكة المحبة. فحيث يحب الصديق صديقه، والزوج زوجته، والشاب الفتاة التي تروق له؛ فهذه السبيكة موجودة في كل هذه الاتجاهات، لأن حيث يتجه القلب تتعدد الدوافع. لكن المحبة الإلهية تزداد في هذه السبيكة عندما تزيد الشركة مع الله، وبالتالي تقل المحبة الجسدية الأنانية. وعندما يضعف المؤمن أو المؤمنة، يزداد العنصر الجسدي الأناني والإنساني ويقل العنصر الإلهي.
الحب في سن المراهقة:
سن المراهقة - كما سبق القول - يتميز بعدم استقرار العواطف وجموحها وترددها، كما أنه يتميز بعدم النضوج الذهني والتقييم الموضوعي؛ ومع أن هذه الأمور طبيعية ولا لوم على الشاب لوجودها فيه في هذه السن؛ لكن الحب الحقيقي يحتاج إلى نضوج ذهني واستقرار عاطفي. وعدم توفر هذه العوامل يجعل الحب الحقيقي غير وارد مطلقًا في هذه المرحلة العمرية. فسبيكة الحب في هذه السن تمتلئ بالمحبة الغريزية الحسية، لأن هذه هي دائرة مشغوليتهم الطبيعية. وأغلب ما يسمى حب هو انفعالات وميول غريزية خارج نطاق حجمها الطبيعي وتنتهي تلقائيًا بانتهاء هذه المرحلة. لذلك أغلب قصص الحب بين شاب وشابة في هذه السن تنتهي بالفشل.
حب المراهقة والشهوة والهوى
الشهوة هي الإلحاح الداخلي في كيان الإنسان للحصول على شيء معين أو تنفيذ شيء معين. بينما الهوى هو تعلق العواطف والقلب بشيء ما والارتباط الوثيق به.
ترك العنان لهذه النوعية من المشاعر والأفكار بين الشاب والشابة، قد يحول الأمر إلى شهوة جامحة تحت ستار كلمة "حب". وهذه الشهوة الجامحة قد تكون غير مأمونة العواقب، ويمكن أن تؤدي إلى أسوإ النتائج، مثلما حدث مع أمنون أخو ثامار الذي سبق الحديث عنه (اقرأ 2صموئيل13)، تجد أن الشهوة في النهاية أودت بحياة أمنون هذا بالإضافة للعار الذي لحق بأخته وبيت أبيه.
أو قد يتحول إلى هوى وتعلق عاطفي عميق وشديد، بسبب الاحتياج العاطفي في الطرفين، وفي هذه الحالة سوف يحفر حفرة عاطفية في كيان كل منهما، وحتى بعد انتهاء هذا الحب غير الموضوعي، سوف تظل هذه الذكريات سبب مرار دائم لأي منهما بعد ارتباطه بشخص آخر. وسوف يكون هذا الهوى هو مصدر تسريب مستمر للقوى الروحية لكل منهم. ولا ننسى أن ما أنهى انتذار شمشون، بل أنهى حياته الروحية والزمنية أيضًا، كان هو الهوى «أحب امرأة في وادي سورق» (قضاة16: 4)، هي التي حلقت له شعره. هذه نهاية طبيعية للتساهل في هذا الأمر.
لكن ما هي علاقة حب المراهقة بالإعجاب أو بالصداقة أو بالزواج؟ هذا موضوعنا في العدد القادم إن تأنى الرب.