"البقع الزرقاء" كان هذا عنوان إحدى الرسائل المُرسَلة إلى جريدة كبرى منذ أكثر من عشر سنوات؛ وإن فَقَدْتُ الجريدة، إلا أن كلمات صاحبتها ما زالت محفورة في ذاكرتي، حيث أنها أثّرت فيَّ حينها تأثيرًا بالغً.
كانت بطلة قصتنا تشكو، لمحرر الباب الأسبوعي بالجريدة، حالها وقسوة الأيام عليها؛ إذ ابتلتها الأقدار بشقيق أكبر وحشي الطباع، سادي النزعة (يتلذذ بإيذاء الآخرين)، لا ينفك يعتدي على شقيقته المسكينة، صابًّا عليها جام غضبه. فإذا تأخرت عن ميعاد عودتها من المدرسة بضعة دقائق - بسبب المواصلات مثلاً - انهال عليها صفعًا ورَكلاً. وإذا حاولت الخروج لزيارة إحدى صويحباتها المعدودات، نَهَرَها وردّها وأذاقها بعضًا من لكماته. وإذا هاتفتها إحدى الصديقات وأطالت في الحديث، كان من نصيب الصديقة الإهانة، وكان من نصيب الأخت المهانة. وإذا تجرأ أحد والديها وحاول الدفاع عنها، انقلب البيت جحيمًا من ثورات الأخ الغاضب.
ضاقت بفتاة الثانوي سبل الحياة، واسودّت الدنيا في عينيها، ولم تعلم ماذا تفعل، فقد امتلأ جسمها من البقع الزرقاء، شاهدة على كَمِّ الضرب والركل والعذابات التي تعرضت لها الأخت يوميً.
وفي أحد الأيام، في لحظة من لحظات اليأس الخانق، وبعد "علقة" ساخنة أذاقها إياها الشقيق الظالم، امتلأ على إثرها وجه الفتاة بالمزيد من البقع، وازدادت الآلام في جسدها الضئيل؛ فضاقت نفسها جدًا، وقررت - بدون تفكير - أن تتخلص من الحياة. فذهبت إلى الحمام، وسكبت على نفسها إحدى المواد القابلة للاشتعال، ثم أشعلت في نفسها النار.
أما أكثر ما أثّر فيَّ في رسالة الفتاة - التي أرسلتها بعد إنقاذها بالطبع - ونبّه حواسي، هو وصف الفتاة لعذابها بعد أن أشعلت النار في جسده. كتبت الفتاة تقول:
"لم أكن أعلم يا سيدي أن النار صعبة إلى هذا الحد! فبعد أن أشعلت النار باغتتني موجات مرعبة من العذاب الذي لا يُوصف، ارتفعت معها صرخاتي إلى عنان السماء. ولم أدرِ بنفسي وأنا أهرول في أرجاء المنزل، وأتدحرج على الأرض، وتتواصل صرخاتي متلاحقة طالبة من ينقذني من هول العذاب وبشاعة الألم الذي أعانيه، والذي لم أكن أتخيله ولا في أسوإ الكوابيس.
أسرع إليَّ الأهل لاطمين صارخين، ولفّوني في بطانية؛ فانطفأت النار بعد أن تركتني شوهاء، عاجزة، أعاني أشد العذاب.
أفقت فوجدت نفسي على سرير في إحدى المستشفيات، يحيط بي الأهل باكين بأحَرِّ الدموع، غير قادرين على مساعدتي ونجدتي. ظللت أصرخ بكل ما تبقى لي من قوة، مستغيثة مسترحمة، لأجل بعض قطرات الماء، دون جدوى، فقد حرّم الأطباء عليَّ الماء لفترة من الوقت...".
صديقي القارئ.. واصلت صاحبة الرسالة قِصّتها شارحة الأهوال التي لا قتها في تلك الفترة العصيبة، طالبة من الأُسر والإخوة حسن المعاملة بعضهم لبعض.
إلا أنني توقفت أمام وصف الفتاة لعذابها في نار أرضية بهذا الشكل الشنيع، واتجه تفكيري إلى أهوال العذاب الأبدي الذي سوف يقاسيه كل من رفض قبول المسيح مخلِّصًا شخصيًا له.
علَّمنا المسيح أن هناك طريقًا واسعة رحبة للحياة: إنها الطريق التي تستطيع فيها أن تسلك في طُرُقِ قلبك، وبمرأى عينيك، مرتكبًا كل أنواع الشرور والموبقات، وملبّيًا كل ما تشتهيه نفسك من رغبات؛ غير أنه حذّرنا أن هذه الطريق تؤدّي إلى الهلاك (متى7: 13).
ربما تمتعض إذا علمت أنني أتحدث عن النار الأبدية، ولكن تذكّر يا صديقي أن المسيح هو أكثر من تكلم عن جهنم، محذِّرًا الجميع من هول العذاب؛ فلقد جاء ذكرها نقلاً عنه 11 مرة من جملة 12 مرة في العهد الجديد (متى5: 22 ، 29 ، 30؛ 10: 28؛ 18: 9؛ 23: 15 ، 33؛ مرقس9: 43 ، 45 ، 47؛ لوقا 12: 5).
ربما ينبري واحد معترضًا: إنها ليست كالنار التي لدينا، إنها مجرد نار عذاب الضمير. أجيب المعترض مذكِّرًا بما حكاه المسيح عن أحد الأغنياء بعد انتهاء رحلة حياته، فإذ هو في الهاوية (وهي مجرد مكان انتظار الأرواح قبل الطرح في جهنم) في العذاب يصرخ طالبًا الرحمة ويستجدي نقطة ماء ليبرِّد لسانه لأنه معذَّب في اللهيب (لوقا16: 24)، فكيف يكون الحال إذًا في جهنم؟!
فنار الجحيم ليست شيئًا خياليًا أو معنويًا على الإطلاق، إنه عذاب حقيقي، وألم رهيب.
ثم إني أوافقك أنها ليست كالنار التي لدينا؛ فهي نار لا تنير بل ستكون نارًا مظلمة (متى22: 13). ثم إن تلك النار لن تلاشي الأجساد برغم هول عنائها، فالذين سيُطرحون فيها سيُعذَّبون نهارًا وليلاً إلى أبد الآبدين (رؤيا 20: 10). ثم إن النار الأبدية لن تُهلك الجسد فقط بل النفس أيضًا (متى 10: 28). إنها نوعية خاصة من النار مُعَدَّة لإبليس وملائكته (متى 25: 41). فإن لم تكن كالنار التي على الأرض فهي أفظع وأرهب وأشد عذابًا بالتأكيد. فعندما يُعِد الله نارًا لعقاب إبليس ومعه جنوده وكل من تبعوه، فلا بد أن يكون عذاب تلك النار أشد إيلامًا من أي شيء آخر قد وُجد على الأرض.
غير أن الأسوأ على الإطلاق هو أن تلك النار أبدية (متى18: 8؛ 25: 41)، وإنها النار التي لا تُطفأ (مرقس9: 43-48). فلن يكون عذاب الأشرار مؤقَّتًا - كصاحبة الرسالة التي أحرقت نفسها - ولكن سيستمر العذاب إلى ما لا نهاية، فيا لضيعة الأمل!
ولن يكون هناك أطباء يداوون الألم ببعض المسكنات، وإن كان من المؤكد أنك ستجد أطباء يتعذبون، إلا إنك لن تراهم هم أو غيرهم من الأشرار في هذه الظلمة الدامسة. كما أنك لن تجد من هناك يواسيك أو يتعاطف معك أو يبكي عليك، بل ستَلقى العذاب وحيدًا تمامًا، فما أبأس المصير!
صديقي.. احتمل المسيح لأجلك عذاب لا يوصف، وكل دينونتنا قد وقعت فعلاً عليه. يقول إرميا في مراثيه معبِّرًا - بالنبوة - عن آلام المسيح «مِنَ العلاء أرسل نارًا إلى عظامي فَسَرَت فيها» (مراثي 1: 13). وما كان سيستقر عليك في الجحيم من غضب، قد احتمله المسيح منفردًا متروكًا من الجميع، حتى الله حجب وجهه عنه، لأنه كان يحمل في هذا الوقت خطاياك وآثامك ودينونتك.
فلماذا لا تنجو بنفسك من هذا النصيب المرعب، وتأتي إلى الرب يسوع تائبًا معترفًا بخطاياك، مخصِّصًا عمله لأجلك؟!
قال المسيح «إن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون» (لوقا13: 3 ، 5).