أرخى المساء سدوله على يوم الاثنين 2004/11/1 م، وبعدما انتهى من مذاكرة الدراسات الاجتماعية استعدادًا لامتحان الشهر في صباح الغد، جلس في هدوء الفتى بولس مهني دوس، البالغ من العمر 13 عامًا، في مدينته دير مواس بصعيد مصر.  ومع دقات الساعة العاشرة مساء، نادى بولس امه قائلاً:  "ماما، هيا رنمي معي ترنيمتي المفضلة، نعم فمنذ تغييري ومقابلتي القلبية مع الرب يسوع المسيح مخلصي الشخصي، منذ ما يقرب من العامين وما زالت هي ترنيمتي المفضلة.  هيا يا ماما نرنم.  أنا خلّصت مذاكرة الدراسات".  جلست الأم بجوار بولس الذي أخذ يرنم كعادته بنشاط متزايد:  

هل جلستَ في هدوءٍ
وتأملتَ صليبًا
  ونظرتَ للعلاءْ
بينَ أرضٍ وسماءْ
صافحًا عن صالبيه بصلاةٍ ودعاءْ
فوقَهُ الحبُّ تجلى بجراحٍ ودماءْ
يزيحُ الجبالَ ينادي:  تعالَ
يُشيعُ السلامَ ينيرُ الظلامَ
  بصوتٍ يهُزُّ الضميرْ
فيبصرُ حتى الضرير

بعدما كرر بولس ترنيمته عدة مرات قال لأمه:  "تصبحين على خير يا ماما".  وركع، وظل حوالي نصف الساعة يصلي بصوت تكاد تسمعه.  وكانت لجاجته تقطع السكون الدفين، وتجلب الدفء في جوف ليلة الشتاء القارص هذه.  ثم نام في هدوء.

كان بولس، رغم سنه الصغير، ومنذ أن تمتع بالحياة الجديدة مع المسيح، يزور أصدقائه ويحدّثهم عن الرب يسوع المخلِّص.  وكان سبب بركة عظيمة للشباب في اجتماع شباب إعدادي، بفضل التغير الواضح في حياته، وزياراته الدائمة لهم، ودعوته لهم للعيشة للرب، وما وزّعه عليهم من الكتب المقدسة ومجلة نحو الهدف، وكميات النبذ التي تقدَّر بالمئات التي تتحدث عن المصلوب والتي وزعها كهدايا عليهم.  كان الرب قد استخدمه طوال العامين الماضين لربح حوالي 12 شابًا من شباب إعدادي للمسيح، ولهذا كان يكثر الصلاة يوميًا لأجلهم، ولأجل كل أفراد شباب إعدادي في مدينته.

استيقظ بولس، على غير الميعاد، في الثالثة فجرًا، ورغم عدم إصابته بأي مرض من قَبل شعر ببعض التعب في التنفس، فأيقظ أباه وأمه، ثم قال لهما بابتسامة، وهما يحاولان مساعدته:  "أنا هاموت الآن.. لكن أنا رايح عند يسوع في السماء".  وفي هدوء شديد، نام.. نعم، نام في سلام في الحال، في حضن الرب يسوع المسيح الذي كان قد رنم عنه منذ ساعات قليلة وهو جالس في هدوء:  

هل تذوَّقتَ سلامًا
مِنْ مسيحٍ بدماهُ
  ونَعِمتَ بالفداءْ
علّــمَ الدُنـيا العطــاءْ

راضيًا ضحى غناهُ حتى يُغني الفقراءْ
جاءَ للإنسانِ نورًا مانحًا له الضياءْ

وبالتأكيد بعدها لم يجلس بولس ليتأمل في هدوء في المصلوب، كما كان يفعل دائمًا من قبل، بل هو الآن دائم الإقامة مع المسيح كما قال الرسول بولس: >لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ والْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ... لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا< (فيلبي1: 21-23).


وكما كان مثمرًا في حياته كان أكثر ثمرًا في رقاده؛ ففي الجنازة فوجئ الكثيرون بوجود أفراد من عائلة كانت في خصام من سنين عديدة مع عائلة بولس، وكانوا يبكون بشدة، وحكى أحدهم لطبيب صديق لي قائلاً: "كان بولس يعرف الخلاف الشديد بين العائلتين، ويعرف أنه ممنوع على أي فرد من العائلة التعامل بأي شكل مع العائلة الأخرى، حسب التقاليد الشديدة في صعيد مصر؛ إلا أنه، ولأننا جيران في الحقل، كان بولس في الخفاء وفي الظهيرة يُبَرّد جرة ماء تحت الشجرة، بعيدًا عن أنظار عائلته، وفي السر كان يحضرها لنا لنشرب في حر الصيف الشديد.. لم استطع أن أقاوم حب المسيح الذي ظهر في هذا الغلام، فحضرت الجنازة، وبكيت عليه، وتصالحت العائلتان، ومن يومها تغيرت حياتي، وأنا مواظب على الصلاة وحضور الكنيسة".


لقد سمعت أحد الأولاد الذين ربحهم بولس للرب يقول: "لن أترك الكنيسة مطلقًا بعد أن عشت مع الله عن طريقه. سأظل أعبد الرب هنا، ثم سأتقابل مع بولس في السماء". وقال لي خادم شباب إعدادي في كنيسته: "كانت لبولس استنارة عجيبة في كلمة الله، وكان آخر درس قلته لهم عن مدن الملجإ (يشوع20)، ولدهشتي أنه أثناء الصلاة بعد الدرس ذكر في صلاته أسماء المدن الست ومعانيها، وطلب من الرب التمتع بالحماية فيه دائمًا لأنه ملجأنا العجيب.


صديقي القارئ العزيز، صديقتي القارئة العزيزة.. إن الموت لا يفرِّق بين شيخ أو طفل فمكتوب: >فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ مَتُوشَالَحَ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً؛ وَمَاتَ< (تكوين5: 27)، ومكتوب أيضًا: >وَقَتَلَ (هيرودس) جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ< (متى2: 16). فسواء متوشالح أو الأطفال فجميعهم ماتو. ودعني أذكّرك بالمكتوب: >وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ< (عبرانيين9: 27)، >لأَنَّ الإِنْسَانَ أَيْضًا لاَ يَعْرِفُ وَقْتَهُ. كَالأَسْمَاكِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِشَبَكَةٍ مُهْلِكَةٍ، وَكَالْعَصَافِيرِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالشَّرَكِ؛ كَذَلِكَ تُقْتَنَصُ بَنُو الْبَشَرِ فِي وَقْتِ شَرٍّ إِذْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً< (جامعة9: 12). وليس السؤال الهام: متى يأتي الموت؟ ولكن السؤال الأهم: ماذا بعد الموت؟ فلقد سافر بولس بهدوء للسماء، حسب آخر كلمة نطق بها، وأكيد أنه سيحصل على الأكاليل والمكافآت لكل جهاده في خدمة الرب وحفظ كلمة الله وربح الآخرين للمسيح؛ فهل بكل جدية تجلس الآن معي عند صليب الرب يسوع وتصلي الآن وانت تقرأ هذه المجلة في مكانك.


صلاة: أيها الرب المصلوب.. أعلم انه لا بد أن يأتيني الغروب.. فالآن أجلس عند صليبك لأتوب.. مصلّيًا أن يغسلني دمك المسكوب من جنبك المضروب.. لأنال الغفران والسلام يا أيها المخلص المحبوب. آمين.


ملحوظة: إن كانت هذه القصة الحقيقية قد أثارت عندك أي استفسار أو قرار، أو لك من خلالها أختبار، فيمكنك مراسلتي على عنوان المجلة المكتوب على الغلاف.