محبة حتي الموت

كان "مكسيلمان كولبي" راعيًا لإحدى الكنائس في بولندا، وكان قد بلغ الخامسة والأربعين من عمره عندما قام هتلر والنازيين الأشرار بغزو بلاده، في تلك الأيام العصيبة التي غزا فيها هتلر أُممًا بأكمله. كان كولبي يخبر رفاقه من المؤمنين في هذا التوقيت بأنهم يجب أن يفرحوا إذا حَلّ الاضطهاد، لأن في وسطه ستَزرع دماؤهم كنائس جديدة. وقد كان مُحِقًّا، فقد حَلّ الدور على بولندا؛ فشَنّ النازي حملة كاسحة عليهم، وامتلأت سماء البلاد بقاذفات القنابل، وتناثرت الدماء، وتطايرت بقايا الأجسام البشرية مع شظايا بقايا المنازل.

وأصدر هتلر مذكرة يحدِّد فيها المصير المروع لملايين البولنديين قال فيها: "إن عامة البولنديين مخلوقين لوضيع الأعمال، وأما الطبقة الحاكمة والأرستقراطية فلا مكان لها على وجه الأرض، بل في باطنه. وعلى القادة الروحيين ورعاة الكنائس أن يعظوا عامّة الشعب بما نطلبه منهم للمحافظة على خنوع وبلادة العامّة". ولكن لم يكن مكسيلمان كولبي ليمتثل لمثل هذه الأوامر؛ لقد كان دائمًا مطيعًا لله أكثر من الناس، فظل يبشِّر بإنجيل المسيح الصريح، ويشجِّع إخوته المؤمنين في كل مكان. كان دائمًا مستعدًّا لأن يدفع ثمن طاعته وراغبًا في أن يشترك في آلام المسيح ويتشبّه بموته (فيلبي3: 10) مقدِّما جسده ذبيحة حية (رومية12: 1).


وفي أحد الأيام هرّبت قوات المكافحة السرية البولندية كلمة إلى كولبي تقول إن اسمه قد صار في قوائم الجستابو (وهم جبابرة المخابرات الألمانية) وأن عليه الهرب فورً. ولكن كان ردّ كولبي هو عين ما قاله نحميا: >أ رجل مثلي يهرب؟< (نحميا 6: 11)، فقد علم أن حاجة إخوته إليه في هذا التوقيت كانت حاجة ماسة.

وفي صباح أحد الأيام أُلقي القبض عليه بتهمة التبشير بالإنجيل، وأُرسل هو وعشرات المؤمنين والخدام إلى معسكر التعذيب والموت الخاصّ بالنازيين (أوشفايتز). وقد كان العذاب هناك رهيبًا، وأخبره أحد السجانين أن توقُّع استمرار حياته لن يتعدى أيامًا قليلة.

كانت أوشفايتز تعمل كآلة قتل مروعة؛ فلم تتوقف مدافع المعسكر الخمسة عن قذف الغازات السامة، ولم تتوقف السياط عن ضرب الظهور العارية، وقد امتلأت كافة أرجاء المعسكر بالأعضاء البشرية الممزقة وبهلاهيل الثياب المخضَّبة بالدماء.
كان المشهد مروعًا ومرعبًا، وكان كولبي مكلَّفًا بالأعمال الشاقة في هذا المعسكر، حيث كان عليه أن يحمل جذوع الخشب الثقيلة لتغذية الأفران الضخمة التي كان يُحرق فيها الآلاف من المعتقلين.

كان الإعياء قد اشتد بكولبي، إلا أنه لم يكُفّ عن التبشير بإنجيل المسيح وتشجيع إخوته المؤمنين في السجن. لقد كان يصلي أن يستمر أمينًا حتى الموت، ولم تكن لديه رغبة إلا في أن يستمر مطيعًا لدعوته، ممجِدًا لسيده. لقد كان فاهمًا لقول السيد: إن >من يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلِّصها< (مرقس 8: 35) لهذا قدّم لنا واحدة من أروع القصص العملية عن الحب والتضحية.
ففي إحدى الليالي امتلأ الجو فجأة بصيحات الجنود وطلقات الرصاص، وانطلقت صفارات الإنذار تشق سكون الليل.. لقد نجح رجل في الفرار من السجن، وقد كان عقاب هذه الجريمة فظيعًا؛ ليس للسجين الهارب - فقد أفلت - بل سيتحمل بقية المساجين وزره.

وفي الصباح التالي لم يكن هناك شخص لم تكن يداه مربوطتان ووجهه متورمًا من إثر الصفعات وضربات العصي، وجسده دامٍ من نهش الكلاب البوليسية الضخمة. وصرخ قائد السكنة في وجوههم: "لم نعثر على الهارب، لذا سيموت عشرة رجال منكم في مستودع التجويع تحت الأرض". جحظت عيون المساجين رعبًا، واقشعرت أبدانهم هَلعًا، لقد كانوا يسمعون قصصًا عن نزلاء هذا المستودع الذين كان منظرهم يخيف حتى حراسهم. وسار القائد بين الصفوف ليختار ضحاياه، وسرعان ما كان هناك عشرة تعساء يرتعشون من الخوف ويتصببون عرقًا من هول المُصاب. وانهار أحد الضحايا باكيًا وهو يصرخ: "آه يا زوجتي المسكينة، آه يا أولادي المساكين: كيف ستعيشون من بعدي؟". سيق الرجال حُفاة إلى المستودع، ودفع الجنود الرجل المنهار دفعً. ولكن فجأة خرج أحد السجناء من الطابور ليعترض الموكب، مشيرًا لهم بالانتظار. نظر إليه القائد مذهولاً أمام جرأته، وصرخ بهيستيريا: "كيف تجرؤ أيها البولندي الحقير؟". قاطعه الرجل بصوت رقيق: "عفوًا أيها القائد المحترم إنني أرغب في أن أحل محل أحد هؤلاء الرجال". حملق فيه الجنود مذهولين، ولهث المساجين هلعًا، لقد كان ذلك هو رفيقهم المحبوب الذي شاركهم في آخر كسرة خبز يابسة لديه، الذي قادهم إلى الثقة والسلام في المسيح. وتوقف فم القائد عن الكلام وقد ظل مفتوحًا لبرهة. نظر إلى كولبي مرة بعد أخرى متفحِصًا إياه من رأسه حتى أخمص قدميه: "إنه لا يبدو معتوهًا"؛ هكذا فكَّر، ثم صرخ عندما انتبه من دهشته: "لماذا؟!" أجاب كولبي: "إنني أرغب أن أتبع خطوات سيدي الذي مات لأجلي، وأموت عوضًا عن هذا الرجل الذي يحتاج إليه أولاده وزوجته". توقف القائد متسمِّرًا في موضعه وهو ينظر إلى عيني كولبي وقد أشرقتا بوميض سماوي. لقد كان يتبع خطوات سيده إلى النهاية ذاك الذي تألم لأجلنا تاركا لنا مثالا لكي نتبع خطواته (1بطرس 2: 21).

تنهّد القائد في ذهول مشيرًا بالموافقة، ليسرع كولبي بالانضمام عوضًا عن الرجل النائح، الذي ابتعد وعلى وجهه علامات الدهشة، حتى أنه لم يشكر كولبي، ولكن لم يكن هذا ما ينتظره كولبي إذ كان سيضع حياته نيابة عن شخص آخر تحقيقًا لعمل الطاعة، متشبِّها بذاك الذي أطاع حتى الموت.

صرخ فيهم أحد الضباط: "اخلعوا ملابسكم!". وفكر كولبي: "لا بأس بالموت عاريًا، فقد مات سيدي على الصليب عاريًا".
في القبو سيق الرجال العشرة إلى زنزانة مظلمة، حيث كانوا سيقضون ساعاتهم الأخيرة بدون طعام أو شراب حتى الموت. ومع مرور الساعات والأيام أدرك المعسكر أن هناك شيئًا غير طبيعي يحدث في زنزانة الموت، فالمسجونون الذين كانوا قبل ذلك يقضون أيام موتهم يولولون وينهشون أحدهم الآخر كانوا يصلّون ويسبحون الله، وكان كولبي يشجعهم لكي يضعوا ثقتهم في المسيح ليَعبر بهم وادي ظل الموت، ولعله لهذا السبب كان كولبي هو آخر من مات.

عزيزي .. هل ترى في هذه القصة أبعَادًا مصغَّرة لقصة أعظم وأقوى تأثيرًا بما لا يُقاس؟ أعرف أنك تعرف.. إنها قصة حب الله لن.. قصة الحب العجيب التي تجلّت في صليب المسيح.. لقد بين الله محبته لنا، لإنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رومية 5: 8). ولم تكن محبة المسيح لنا محبة كلامية، بل كانت بالعمل والحق >لأنه بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك وضع نفسه لأجلنا<. وهل تعلم أنه في طريق المحبة ينبغي لنا أنه كما وضع ذاك نفسه لأجلنا أن نضع نحن نفوسنا من أجل إخوتنا؟ (1يوحنا3: 16).

عزيزي .. هل ترغب في أن تكون من القلائل الذين، في طريق طاعتهم ومحبتهم لسيدهم، يقدّمون حياتهم رخيصة من أجل من اعتبروه أغلى بما لا يقاس؟ سامعين للقول المؤثر..

دمي الثمين قد أرقت من أجلك
فدىً لكي تنجو من صولة المهلك
وأنت ماذا يا ترى فعلت من أجلي؟

إن لم تكن تستطيع الآن أن تموت من أجل المسيح، أفلا ينبغي لك على الأقل أن تعيش مُخلِصًا لذاك الذي مات من أجلك؟ .. مطيعًا لقول الكتاب: >إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذا ماتو. وهو مات لأجل الجميع لكي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام< (2كورنثوس 5: 14-15)