في زيارة لإنجلترا عام 1991 ذهبت لأحد اجتماعات المؤمنين من أصل أفريقي، فوجدت أحدهم يغسل أرجل إخوته بالماء ويمسحها بالمنشفة. في البداية اندهشت مما كان يحدث، لكن تذكرت ما فعله الرب يسوع المسيح يوم غسل أرجل تلاميذه ومسحها بالمنشفة التي كان متزرًا به.
وخدمة غسل الأرجل كانت من واجبات الضيافة، وتسبق تناول الطعام. وغرضها تنظيف أرجل الضيوف المتسخة، لأنهم كانوا يلبسون نعالاً مكشوفة (صنادل)؛ وإنعاشهم بترطيب أرجلهم بعد رحلة شاقة ومتعبة. لذلك وجب أن يُقدَم للضيوف ماءٌ ليغسلوا أرجلهم، أما في بيوت الأغنياء فيقوم العبيد بغسل أرجل ضيوف أسيادهم.
وقد مارس هذه الخدمة إبراهيم ولوط وآخرون (اقرأ تكوين 18: 4؛ 19: 2؛ 24: 32؛ 43: 24؛ قضاة 19: 21؛ 2صموئيل 11: 8). والرب يسوع وبَّخ سمعان الفريسي لأنه لم يُعطِ ماءً لأجل رجليه بعد أن دخل بيته، أما المرأة التي كانت خاطئة فقد غسلت رجلي الرب بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها (لوقا7: 44).
يقول الكتاب >يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل الأشياء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي<؛ أي أنه كان يعلم: من هو؟ ومن أين أتى؟ وإلى أين يذهب؟ لكنه قام - تبارك اسمه - بخدمة العبد، بغسل الأرجل. يا له من اتضاع عجيب ومدهش!
ذاك الذي >يداه حلقتان من ذهب مرصعتان بالزبرجد< (نشيد5: 14) الذي قال>يدي أسست الأرض ويميني نشرت السماوات< (إشعياء48: 13)؛ لكنه بحب واتضاع يضع يديه الطاهرتين على أرجل تلاميذه، ويغسلها بالماء ليزيل أقذارها ويمسحها بالمنشفة.
ومع أن غسل الأرجل في يوحنا 13 قد تم حرفيًا لكن له معنى رمزي روحي رائع. فالماء إشارة إلى كلمة الله، والأرجل إشارة إلى السلوك. فعندما نقرأ كلمة الله ونفهمها، فإنها تغسلنا وتطهرنا، >مطهِرً... بغسل الماء بالكلمة< (أفسس5: 26).
ويأتي سؤال: لماذا غسل الرب أرجل تلاميذه؟ والإجابة هي لعدة أسباب:
- ليعلن محبته لهم: فلقد أحبهم إلى المنتهى، بالرغم من ضعفهم وتقصيرهم وأخطائهم. لذلك قبل أن يتركهم أراد أن يؤكد لهم أن محبته العظيمة مستمرة دون تغير حتى بعد رجوعه للآب.
- ليعلّمهم الاتضاع: لقد أعلن لهم أن العظمة الحقيقية هي في الاتضاع وليس في التسلط، حين قال >الكبير فيكم ليكن كالأصغر. والمتقدم كالخادم... أنا بينكم كالذي يخدم< (لوقا22: 26، 27). وقد أوضح كلامه بطريقة عملية إذ انحنى وغسل أرجلهم.
- ليكونوا في شركة معه: عندما اعترض بطرس على غسل رجليه، قال له الرب: >إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب<. ومن هنا نفهم أن عدم التطهير اليومي بكلمة الله يعطل تمتعنا بالرب يسوع.
- ليكون هو مثالاً لهم: إذ يقول لتلاميذه: >لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضً. الحق الحق أقول لكم إنه ليس عبد أعظم من سيده<. فإن كان السيد قد أصبح عبدًا فكيف يكون العبد؟ بحق لقد ترك الرب لنا مثالاً لكي نتبع خطواته، لأنه يريد أن يرى صورته فين.
بعد أن غسل الرب أرجل تلاميذه أوصاهم قائلاً >فأنتم يجب أن يغسل بعضكم أرجل بعض< والرب هنا لا يقصد المعنى الحرفي بل الروحي، أي ضرورة سهرهم بعضهم على نقاوة بعض، من خلال شركتهم المتواصلة من كلمة الله. فإذا رأى أحدهم أخاه يعاني شيئًا من البرودة الروحية، أو يميل إلى محبة العالم، يجدر به أن يعظه من الكتاب المقدس بكل محبة، ليعيش حياة القداسة العملية، لأننا في عالم مدنَّس وفاسد ومعرضون لأن تعلق قاذورات العالم بأقدامنا، سواء في مناظر رأيناها، أو تواجُدنا في وسط الأشرار، أو سماعنا كلمات رديئة دون إرادتن. لذلك فوصية الرب أن يغسل بعضكم أرجل بعض.
لكن ما هي شروط الشخص الذي يغسل أرجل إخوته؟ لا بد أن يتصف بالصفات الآتية: -
أولاً: المحبة. فأي عمل روحي بدون المحبة لا قيمة له. يجب قبل أن أغسل رجلي أخي أن تكون في قلبي محبة كاملة له، المحبة التي تتأنى وترفق، التي لا تحتد ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء وتصبر على كل شيء.
ثانيًا: خلع الثياب. لقد خلع الرب ثيابه قبل أن يغسل أرجل تلاميذه، وبالنسبة لنا يجب أن نضع جانبًا مركزنا الاجتماعي، أو الثقافي أو المالي أو العائلي، أو أي اعتبار آخر، ونحن نغسل أرجل أخوتنا، وأعلم أن من أغسل رجليه هو أخي، مثلي تمامًا وعضو في جسد المسيح.
ثالثًا: الاتضاع. لقد انحنى الرب عند رجلي كل تلميذ لكي يغسلهما، ونحن لا بد لنا أن ننحني عند أرجل إخوتنا، أي نتضع، لأنه إذا جلست على كرسي عالٍ لن أستطيع غسل رجلي أخي. ويوصي الرسول بولس المؤمنين الروحانيين قائلاً: >أيها الإخوة إن انسبق إنسان فأُخذ في زلة ما، فاصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظرًا إلى نفسك لئلا تُجرَّب أنت أيضًا< (غلاطية6: 1).
رابعًا: الحكمة. عندما أغسل رجلي أخي، لا يجب أن أحضر ماءً مغليًا أو مثلجًا، لكن ماءً مناسبًا، فيجب أن أستخدم كلمة الله بحكمة حتى لا أجرح أخي أو أسبّب له ألمًا مستمرً. لكن عندما تُستخدم كلمة الله بقوة الروح القدس وبرفق وبحكمة فإن النتائج ستكون عظيمة.
خامسًا: استخدام المنشفة. المنشفة ترينا الخدمة الكاملة، فالرب لم يترك أرجل تلاميذه مبتلة بل جفّفها بالمنشفة، وبالتالي لا يوجد أي أثر من القذارة التي كانت موجودة قبلاً، حتى لا يرى الآخـرون أخطاء بعضهم البعـض.
أخي ... أختي ... ليعطنا الرب أن نغسل أرجل بعضنا البعض متمثلين به كالمثال الكامل. وبحق قال رجل الله متى هنري: "يجب علينا أن نغسل أرجل إخوتنا المدنَّسة ليس فقط بماء الكلمة لكن أيضًا بدموعنا، ونشعر بالأسى لضعفات وحماقات إخوتنا".