«فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مُقدَّسة مرضية عند الله... لتختبروا ما هي إرادة الله؛ الصالحة المرضية الكاملة» (رومية12: 1 ،2).
نأتي الآن إلى العوامل التي تساعدنا على اختبار مشيئة الله وخطته الصالحة في حياتنا عمليً. وقد رأينا في المرات السابقة كيف يتكلم الله إلينا ليعلن لنا أفكاره ومشيئته، وكيف يقودنا ويرشدنا إلى الطريق الصحيح لكي نسير فيه بأمان، ولماذا في أحيان كثيرة نجد صعوبة في تمييز صوت الرب والتحقق من مشيئته.
وهناك ثلاثة عوامل هامة نحتاج إليها لكي نختبر ما هي إرادة الله من جهتن. وسنبدأ بالعامل الأول وهو: التكريس.
والتكريس ببساطة ليس هو أن نعمل أشياء لأجل الرب، أو نُعطيه بعض الأشياء، ثم نعيش حياتنا بعد ذلك لنُرضي أنفسن. بل هو أن يسود المسيح على حياتنا وكياننا، وأن يكون ربًّا على كل شيء، وأن نُسلِّم ذواتنا بالتمام له، وبسرور نطيعه ونخضع له، ونقول مع من قال: >يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟< (أعمال9: 6). وكأنه من الآن فصاعدًا سيعيش لا لنفسه بل للذي مات لأجله وقام (2كورنثوس5: 15). سيعيش طول حياته باحثًا عن فكره وإرادته، ليطيعه اختياريًا ويحيا طوع أمره. لقد قَبِلَ بسرور أن يكون عبدًا لهذا السيد العظيم الذي أحبه وخلَّصه من أسْر الخطية وسلطان إبليس. ولقد صار المسيح بالنسبة له هو أحلى وأغلى شخص في الوجود؛ لذا فهو يحبه ويحترمه ويطيعه ويتّقيه ويعبده ويخدمه. وإذ يشعر بعظمة المسيح فهو لن يَضِنَّ عليه بأي شيء. بل كلما عرفه أكثر كلما أحبه أكثر، وكلما شعر أنه يستحق أكثر كثيرًا مما يفعل له. وسيعيد ترتيب أولوياته ويستغني عن أشياء كان يحبها إكرامًا للمسيح. سيموت عن فعل إرادته الذاتية وعن رغباته الطبيعية، وسيقدّم أعضاءه آلات بر للّه. ليس فقط بعض الوقت أو الجهد أو المال، بل جسده وأعضاءه لتكون ملكًا للرب وتحت تصرفه. العين والأذن واليد والرِجل، الفكر والقلب؛ الكل سيكون على المذبح لإشباع قلب الرب وإكرامه. وكأنه مع المرنم يقول:
لذا على المذبح نفسي ذبيحة تبغي رضاك
وهذا هو المعنى المراد من قول الرسول: >أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حية مُقدَّسة مرضية عند الله<.
لقد قدّم إبراهيم وحيده وأعزّ ما لديه على المذبح، وكان في ذلك مثالاً رائعًا للمحبة والتكريس. لكن الرب يريد ليس إسحاق فقط بل أكثر. إنه يريد أن يمتلك هو المزيد من كياننا، وأن يسود على مساحة أكبر من حياتن. وأن يتم ذلك برغبتنا واقتناعنا واختيارن.
إن تسليم ذواتنا للرب وتقديم أجسادنًا ذبيحة حية مقدسة مرضية له، هو مطلبْ أساسي وعامل قوي يساعدنا على اختبار مشيئة الله الصالحة لن.
والذي يساعدنا على التسليم هو إدراكنا أننا لسنا لأنفسنا لأننا قد اشتُرينا بثمن. لذلك فقد صرنا مِلكًا له، وهو صاحب الحق والسيادة علين. وهل بعد أن عرفنا سمو المسيح وحلاوته ومحبته وتضحيته لأجلنا، هل بعد ذلك نرضى بأي سيد سواه؟ إن الرسول، وهو يطلب من المؤمنين تقديم ذواتهم لله، قد ذكّرهم بكل رأفات الله معهم وما قصده لخيرهم وسعادتهم وما عمله ويعمله لأجلهم.
وعندما ندرك أن أبانا السماوي، بكل محبته الأبوية، يعمل دومًا لخيرنا ويُخطط لنا الأفضل دائمًا؛ فإننا بكل ارتياح سوف نأتي ونسلم ذواتنا بين يديه ونقول مع المرنم:
سلمتُك سيّدي نفسيَ والكِيان
لكَ روحي جسدي لكَ طولَ الزمانْ
فِكري كذا والقلبَ احفظهُما لك
لمجدِ اسمِكَ.. افعل بي ما تشاء.. أنا لكَ
وعندما نُسلِّم فإننا نُسلِّم كل شيء دون قيد أو شرط أو تحفظات أو اقتراحات. فالإيمان يثق في الله، ويطمئن له، ويترك له القيادة بأمان تام.
ولا ينبغي أن ننزعج حتى لو ساءت الأمور، عكس ما نتوقع أو نرجو، فإن الزمام لن يُفلت من يده. ولا نستغرب إن عَبَر بنا في منعطفات خطرة أو سار بنا في نفق مظلم. إنه في النهاية لا بد أن نختبر إرادته الصالحة المرضية الكاملة.
ونحن لا ننكر أن التسليم ليس سهلاً نظرًا لنشاط الإرادة الذاتية فينا، ونظرًا لوجود الرغبات الطبيعية بعنفوانها داخلن. وعلينا أن نتسلّح بنية احتمال الألم وكسر الإرادة الذاتية ونحن على المذبح، ونقول مع بولس: >لأننا من أجلك نُمات كل النهار. قد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح< (رومية8: 36). لكن هذا هو الطريق لأعظم البركات في حياتن.