قبل أن يتنبأ ناحوم بحوالي 150 سنة، ذهب يونان ونادى على نينوى بحسب قول الرب، وتابت المدينة ولم يوقع بها الله الدينونة. لكن يبدو أن الأجيال التالية لم تستفد من رحمة الله التي أظهرها لآبائهم، فعادوا للشرور الأولى ذاتها، وزاد على ذلك أنهم استهزأوا في قلوبهم وأفكارهم بالإله الحي الحقيقي.
فأرسل الرب ناحوم ليتنبأ بسقوط نينوى - عاصمة الإمبراطورية الأشورية، المدينة
المشهورة بقوّتها واستحالة هزيمتها - وتمت أقوال الرب بحذافيرها، وسقطت نينوى
سقوطًا عظيمًا بعد حوالي 50 سنة.
كان الرب قد استخدم مملكة أشور سابقًا كعصا لتأديب شعب إسرائيل لشرورهم. ومن سفر ناحوم نفهم أن الله الذي استخدم العصا يومًا، كسرها بعد ذلك لسبب شرورها وفجوره. نعم هو صاحب السلطان، هو العلي المتسلط في مملكة الناس، هو الذي يرفع من يشاء ويضع من يشاء، هو القادر أن يذل من يسلك قدامه بالكبرياء. لقد تجاهل أهل نينوى هذه الحقيقة وتعلّقوا بآلهتهم الوثنية وحمقوا في أفكارهم؛ فأرسل الرب لهم ناحوم متسائلاً: «ماذا تفتكرون على الرب؟ هو صانع هلاكًا تامً...
منكِ خرج المفتكر على الرب شرًا المشير بالهلاك» (1: 9-11).
من هو ناحوم؟
هو صاحب سفر ناحوم، السفر السابع بين الأنبياء الصغار. وهو من مدينة القوش التي
يعتبرها البعض كفر ناحوم (أي مدينة ناحوم) بجوار بحر الجليل.
ومعنى ناحوم = تعزية، وقد أرسله الله برسالة تعزية لشعبه. فقد أكد لهم أن عدوهم لن يقوم ثانية «أذللتكِ. لا أذلكِ ثانيةً.
والآن أكسر نيره عنك وأقطع رُبُطكِ (أي أكسر نير أشور عنكِ)» (1: 12 ،13).
ويرى البعض أن ناحوم كتب سفره في الفترة بين 663 و654 ق. م. ثم سقطت نينوى حوالي سنة 613 ق. م. على يد الماديين والكلدانيين
رسالة ناحوم:
يحدّثنا ناحوم، في سفره القصير، بكلمات رائعة وعظيمة عن صفات الله. وللأسف فإن الناس في كل العصور، متى زادت قوتهم، ظنّوا أنهم شيء، ونسوا الله تمامًا وقدرته. وناحوم يرسم لنا صورة رائعة عن توافق الصفات الإلهية وتجانسه.
فقد تعامل مع أهل نينوى أيام يونان باللطف، لكنه بعد ذلك تعامل معهم بالصرامة، أيام
ناحوم، بسبب فجورهم «فهوذا لطف الله وصرامته» (رومية11: 22).
ثم
هو بطيء الغضب (1: 3) ولكنه لا يُبرئ البتة؛ إنه حتى في دينونته لا يندفع في ثورة
عارمة، بل يتعامل بغضب مدروس.
ثم هو إله غيور ومنتقم من مبغضيه وأعدائه (1: 2). لكنه مع أتقيائه صالح ورحيم
«صالح هو الرب، حصن في يوم الضيق، وهو يعرف المتوكلين عليه» (1: 7).
فالله بطيء الغضب، لكن بطء الغضب شيء والسكوت على الإثم وعدم المبالاة بالشر شيء
آخر، لذا فهو «غيور ومنتقم».
قال أحدهم: هل تتصور أن صانع الشمس الملهبة التي ترسل نارها على الدوام تكون طبيعته طبيعة باردة، لا تفرق بين شر وخير؟
. ثم إنه ليس هو الإله الذي يسخط فحسب، بل هو الإله القادر في سخطه أن يقلب الأرض
كلها بإصبعه، بل بأقل حركة من إصبعه.
يتصور البعض الطيبة الإلهية بالمعنى الشائع للمثل الفرنسي: الله الطيب
Le Bon Dieu أي المتساهل تجاه الخطية، والذي يتجاوز عن الإثم. كلا، إنهم يخدعون
أنفسهم ويتصورون غنى لطفه وإمهاله وطول أناته على أنها لا مبالاة، مع أنها فرصة
لاقتيادهم إلى التوبة.
ناحوم وسقوط نينوى:
لما تنبأ ناحوم على نينوى، ما كان أحد يتصور أن هذه المدينة ستسقط أبدًا؛ فالقوة العسكرية هائلة، والتحصينات جبارة، وهي محاطة بالأنهار، ومقامة عليها البوابات. لكن اسمع ما يقوله في وصف سقوطها «أبواب الأنهار انفتحت، والقصر قد ذاب» (2: 6). وقد ذكر أحد المؤرخين أن نينوى سقطت بسبب فيضان نهر دجلة، هذا الفيضان حطم أبواب الخزان فغرقت المدينة في المياه. ونحن لا نستبعد ذلك. ولماذا نستبعده؟ أليس الله هو المسيطر على كل عناصر الطبيعة؟! ألم يحدث شيء لم يكن يخطر على بال يوم 26 ديسمبر 2004 استغرق 20 دقيقة تسبب في مسح مدن وقرى بأكملها، وفي تغير مواقع بعض الجزر ثم نتج عنه ما عرفه الناس بـ: تسونامي.
الناس تقول إنها ثورة الطبيعة، لكنها في الحقيقة قوة الله.
ثم يواصل الوصف فيقول «وهُصَّب قد انكشفت. أُطْلِعَتْ. وجواريها تئنّ كصوت الحمام ضاربات على صدورهنّ. ونينوى كبِركة ماء منذ كانت، ولكنهم الآن هاربون»
من هي هُصَّب؟ إنها الملكة. وناحوم يصف ما حدث لها، ثم رد فعل جواريها، بصورة بليغة؛ كأنه يرى ذلك أمامه.
وقد تم هذا تمامً.
وقد غزا الكلدانيون والماديون نينوى ونهبوا كل ثروتها «انهبوا فضة، انهبوا
ذهبًا؛ فلا نهاية للتحف للكثرة من كل متاعٍ شهيٍ» (2: 9).
إن الدرس البارز في هذا السفر هو: وجوب الاتضاع قدام إلهنا العظيم، صاحب القدرة
والسلطان، والذي وإن كان يبيد الأشرار لكنه يحمي المؤمنين، وهو الحصن لهم في وقت
الضيق.