أسطورة تناقلتها الملايين؛ وبحث عنها الآلاف. هو نبع وهمي اعتقد الناس بوجوده في مكان ما، وظنّوا أن من يشرب من مياهه يستعيد شبابه مرة أخرى. ومن مئات السنين تعلّق الناس بهذا الرجاء الزائف شغفًا منهم بالحياة، وخوفًا من الموت. ويذكر التاريخ أن الاسكندر الأكبر هو واحد ممن بحثوا عن هذه المياه أثناء إحدى غزواته في شرق أسيا، وبحث عنه آخرون كثيرون في أماكن وأزمنة مختلفة؛ وعلى الأخص في عصر الاستكشاف
. وهي فترة امتدت من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر، وفيها ذهب العديد من الرحّالة الأوربيون برًّا وبحرًا لاستكشاف طرق تجارية جديدة.
وقد أثمرت هذه الرحلات الاستكشافية عن اكتشافات رائعة مثل اكتشاف الأمريكيتين،
وطريق رأس الرجاء الصالح، وغيرها من الاكتشافات.
وقد ارتبطت أسطورة نبع الشباب باسم المكتشف الأسباني الشهير جوان برونس دي ليون (1460- 1521) الذي رافق كريستوفر كولومبس الشهير في رحلته الاستكشافية الثانية سنة 1493، واكتشف معه الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أول من وصل إلى الجزء الشمالي منه. وقد صار جوان هو الحاكم الأول لبورتريكو، لكنه تركها ليحكمها دييجو ابن كريستوفر كولمبس (الذي توفى عام 1506). ويرتبط اسم نبع الشباب باسم ولاية فلوريدا التي اكتشفها جوان في 27 مارس 1513
في أثناء تجواله وبحثه لاستكشاف مناطق جديدة (منطقة كوبا) ناحية جزر البهاما،
وقد كان من المحفِّزات الأساسية لدى جوان دي ليون هو العثور على هذا النبع
الأسطوري.
وقد عُرف جوان بهذه الأسطورة من الهنود الذين اعتقدوا بوجود هذه المياه
المجدِّدة للشباب، وتصوّروا أن مياه هذه النبع تعجّ أيضًا بالذهب والأحجار الكريمة.
ومن وراء جوان، الذي مات في عام 1521 - دون أن يجدد شبابه بالطبع - ذهبت مئات
المجموعات الاسكتشافية بحثًا عن نبع الشباب، وقد لقي الكثير منهم حتفهم في أثناء
بحثهم - في مجاهل الصحاري والأدغال - عما يطيل العمر ويعيد الشباب.
وما زال الناس إلى اليوم على استعداد لإنفاق الملايين من الجنيهات بحثًا عما يطيل حياتهم ويستعيد شبابهم.
وإن سلّموا بعدم وجود خرافات مثل نبع الشباب أو إكسير الحياة، إلا أنه ما زال هناك
العديد من الأبحاث العلمية التي تُجرى في المعاهد والجامعات لمحاولة معرفة التغيرات
الكيميائية التي تحدث في الجسم المسبِّبة لعوامل الشيخوخة في محاولات يائسة لمنعه.
نعم.. فلعل لغة الملايين هي عين ما قاله الشاعر:
بكيت على الشباب بدمع عيني
ألا ليتَ الشبابُ يعود يومًا |
|
فلم يُغْنِ البكاءُ ولا النحيبُ
فأُخبرُه بما فعلَ المَشيبُ |
صديقي
الشاب: يتمنى الملايين لو استطاعوا أن يعودا إلى تلك الفترة التي تعيشها أنت: فترة
القوة والطاقة والحيوية، فماذا أنت فاعل بشبابك؟ لا تُنفقه عبثًا؛ فهناك من أضاعوا
شبابهم في اللهو والعبث، الحب وخداع القلب، في تيار العالم وأفانينه، تساليه
وملاهيه، وتمُرّ السنون سريعًا، وينقضي جُلّ العمر دون فائدة تذكر.
أليس حريًا بنا أن نتذكر قول الحكيم «افرح أيها الشاب في حداثتك، وليسرّك قلبك في أيام شبابك... واعلم أنه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة.
فانزع الغم من قلبِك، وابعد الشرَّ عن لحمك؛ لأن الحداثة والشباب باطلان» (جامعة11:
9-10).
فهنا يخبرنا الحكيم أن الأفراح العالمية والملذّات الجسدية لا بد أن تنتهي بالغم الشديد في القلب، ويحذر أيضًا أن من يخطئ خطية النجاسة إنما يأتي بالشر إلى لحمه، ويخطئ إلى جسده (1كورنثوس6: 18) لذا يعقبها الحكيم بالوصية:
«فأذكر خالقك في أيام شبابك؛ قبل أن تأتي أيام الشر، أو تجيء السنون إذ تقول: ليس لي فيها سرور» ويردف بالقول موضِّحًا: «قبل ما تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم»؛ أي أن بهجة الحياة تعتم ونضارة الشباب تنطفئ. «في يوم يتزعزع فيه حفظة البيت»؛ أي تهتز فيه الأيدي ضعفً. «وتتلوّى رجال القوة»؛ تضعف الرجلان والساقان. «وتبطل الطواحن لأنها قَلّت»؛ فالأسنان والأضراس القليلة التي تبقى تفشل في أداء مهمته. «وتظلم النواظر من الشبابيك»؛ أي تضعف العينان. «وتغلق الأبواب في السوق»، أي يثقل الكلام. «ينخفض صوت المطحنة»؛ يضعف السمع. «واللوز يزهر» أذ تشتعل شيبة الرأس.
وغيرها من التشبيهات الجميلة التي تدلل على هزيمة جسم الإنسان إزاء عوامل الشيخوخة
(جامعة12: 1-8).
لذا فطوبى لمن يتحذّر ويتّعظ ويذكر خالقه في أيام شبابه، وينتهز فرصة كثرة الطاقة، ونضرة الشباب في خدمة تاعبة للرب ولقطيعه، فيُفني طاقاته وحياته في طاعة مشيئة الله من القلب، في نشر أحلى أخبار يمكن للمرء أن يتكلم بها: عن حب المسيح وفدائه وصفحه للأثيم. فأنعِم بمن سمع وأطاع. فهكذا يكون استثمار الشباب والطاقة قبل أن تمضي السنون، وتفوت فرصًا ثمينة كان يمكن أن نستغلها لإكرام سيدنا بأفضل الطرق. قال مودي رجل الله: "كل واحد منا يستطيع أن يحب يسوع ويستطيع أن يعمل شيء لشخصه المبارك. ومهما كان هذا العمل صغير فانه سيبقى خالدً.
فكتل الحديد وأحجار الجرانيت تتحطم بمرور الزمن، لكن ما نعمله من اجل المسيح لا
يفنى أو يتلاشى بل سيخلد أكثر من الزمن نفسه".
أما مَنّ ذَهب عنهم الشباب وولى، فلدينا لهم أخبار طيبة: الأول: أن الرب يجدِّد مثل النسر الشباب (مزمور103: 5)، فيهب من لدنه قوة وطاقة وبركة وحياة مثمرة. والثاني: أن لنا رجاء أسمى بما لا يُقاس من أحلام استعادة الشباب على الأرض؛ إنه الرجاء الموضوع لنا في السماوات (كولوسي1: 3-5) أنّ الرب سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده (فيلبي3: 21)؛ فهذا الجسد الممجَّد الذي سنحظى به عن قريب لن تدبّ فيه أبدًا عوامل الفناء والشيخوخة، ولن تظهر عليه أمراض أو تجاعيد، وحتى الموت لن يكون في ما بعد.
نعم سنصير شبابًا إلى الأبد في هذا الجسد المُمجَّد.