بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تم تقسيم مدينة برلين الألمانية، وأصبح القسم الشرقي من المدينة في قبضة الشيوعيين الذين توعدوا - كغيرهم من محبي الجهالة والضلال - باستئصال المسيحية. وبدأت معاول الهدم ومطارق التدمير عمله. فأُغلقت الكنائس، ومُنعَ دخول الكتاب المقدس أو توزيعه، وكُمِّمت أفواه المؤمنيين، وأصبح الإيمان المسيحي له عواقب وخيمة على كل من يعترف به، أقلها الاضطهاد المعنوي والجسدي والاختفاء خلف قضبان السجون. وهكذا ما عادت تُسمع في ألمانيا الشرقية كلمة «الصليب»، أي الكلمة التي تُخبر عن عمل ابن الله على الصليب وموته من أجل خطايانا وقيامته لأجل تبريرنا (رومية4: 25).
ولكن «الرب في العُلى أقدَر» (مزمور93: 4) و«الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم» (مزمور2: 4)، فهو - له كل المجد - صاحب السلطان وصاحب الكلمة الأخيرة في هذه الحياة، وهو القائل: «لأني أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلي... رأيي يقوم وأفعل كل مسرّتي» (إشعياء46: 9 ، 10). فما أعظمه! وما أمجده!
ففي عام 1964 قرر فالتر أولبريخت رئيس ألمانيا الشرقية تشييد برج مرتفع رأسه في السماء ليكون تُحفة هندسية ورمزًا تفتخر به برلين الشرقية. وُضع حجر الأساس للبرج في 4 أغسطس 1965، وأكتمل البناء في أربع سنوات، ليُفتتح أمام الزائرين في 3 أكتوبر 1969. وأرتفع البرج ليناطح السحاب، بمسافة 365 مترً. وفي عام 1990 أُضيفت إليه سارية للإرسال التليفزيوني ليُصبح ارتفاعه 368 مترًا، وليُصبح بذلك ثاني أكثر الأبراج ارتفاعًا في أوروبا بعد برج موسكو الشهير. ويمكن - وبسهولة شديدة - رؤية هذا البرج من جميع أنحاء برلين بقسميها: الشرقي والغربي.
ويشتمل البرج على كرة معدنية ضخمة، تعلو 204 مترًا فوق الأرض، وتحتوي على مطعم وصالة عرض للزائرين. وتدور حول نفسها 360 درجة كل نصف ساعة، مما يُتيح للجالسين فيها مشاهدة كل أنحاء برلين. ويصل عدد زائري هذه التُحفة المعمارية الرائعة إلى قرابة المليون زائر سنويً.
ولكن انتظر يا صديقي، فهناك ما هو أهم من هذا كله:
فما أن اكتمل بناء البرج حتى بدأت ظاهرة عجيبة تلفت أنظار الجميع، ولم يُعرف لها سببًا ولا تفسيرً. فما أن تُشرق شمس الصباح وتُرسل اشعتها على الأفق البعيد، إلا ويظهر على السطح المصقول للكرة الدائرية للبرج، إنعكاسًا للأشِعة في صورة صليب ضخم لامع يخطف الأبصار. ولم يكن هذا الانعكاس في حسبان مُصمّمي البرج. ولا كان شكل الصليب اللامع مرغوبًا فيه من السُلطات الشيوعية المُلحدة، والتي حاولت جاهدة أن تلاشي هذه الظاهرة بتغيير طلاء البرج بآخر داكن اللون، أو بالطَرق على سطحه ليُصبح خشنًا غير مصقولاً؛ ولكن باءت كل المحاولات بالفشل الذريع، ليبقى هذا الصليب يلمع في سماء برلين لتراه عيون الجميع.
وهكذا أصبح كل الذين يعبرون في شوارع برلين يُفاجأون بهذا المنظر غير المتوقع، إذ يرتفع نحو السماء صليبٌ لامعٌ، يجعل أفكار كل من يراه تتحول، ولو للحظات، نحو الصليب والمصلوب؛ نحو الرب يسوع المسيح وعمله الكفّاري الذي أتمّه على الصليب.
وارتفعت الصلوات من المؤمنيين من أجل أن هذا الرمز العملاق للإيمان المسيحي يُفضي إلى تغيير حياة بعض الناس وخلاصهم. وكان المؤمنون يشعرون بالامتنان والفرح وخاصة حين ينجذب فكر واهتمام واحدٍ من غير المؤمنيين نحو الرب يسوع المسيح وهو على الصليب. وقد يكون التأثير عابرًا، ولكن مَن كان يستطيع أن يُنبئ عن ما قد يعنيه التجاوب مع التأثير الذي قد يُنشئه الروح القدس في النفس الخالدة، حتى ولو لم يَدُم هذا التأثير إلا لثوانٍ معدودة؟ ففجأة قد يبدأ شخصٌ أثيمٌ أو ملحدٌ يتسائل عن سبب موت المسيح على الصليب. وربما دفعه ذلك إلى البحث عن الجواب في الكتاب المقدس أو من مؤمنيين يعرفهم. وغالبًا تأتي الإجابة بما يسحق القلوب الصلِبة ويُذيبها ويُخضعها لنعمة الله، بعمل الروح القدس.
وهكذا كان الله عاملاً لتقديم شهادة لابنه باعتبار تضحياته وتنازله ومحبته المُبرهَنة بموته على الصليب. وتبرهن أنه حتى ولو قدر العدو أن يملأ قلوب المؤمنيين خوفًا ويُسكتهم عن الكرازة «بيسوع المسيح وإياه مصلوبًا» (1كورنثوس2: 2)، لالتزم الله أن يستخدم حتى الحجارة والمعادن وأشعة الشمس لمجد شخص ابنه الوحيد وكمال عمله الكفَّاري على الصليب لمجد الله ولبركة الإنسان (اقرأ من فضلك لوقا19: 36-40).
وفي عام 1989 انهار سور برلين، وتم توحيد شطري ألمانيا، وسقطت الشيوعية التي ظن اتباعها يومًا أنهم سيستأصلون المسيحية، وبقي الصليب شامخًا وشاهدًا على ثبات وعظمة كل الحقائق الأبدية المجيدة والمؤكَّدة التي تقدمها المسيحية.
أخي العزيز: إن كلمة «الصليب» تحدثنا أنه منذ ألفي سنة نُصبت على رابية الجلجثة ثلاثة صلبان. عُلِّق على الأوسط منها الرب يسوع المسيح مخلِّص العالم، الذي مات من أجل الخطية، وقد كان يستطيع أن يموت لأجل الآخرين لأنه كان هو ابن الله ولم تكن له أو فيه أيّة خطية، إلا أن خطايانا كلها كانت عليه. وعلى جانبيه صُلب لصَّان. وواحد من ذينك اللصين مات عن الخطية، إذ في آخر لحظات حياته التعيسة الملطَّخة بالشرور تاب وطلب الغفران، إذ كان قد آمن بالمسيح ربًّّا ومخلِّصًا، ووضع ثقته في رحمة الله، وبعد لحظات انتقل إلى الفردوس. أما اللص الآخر فقد مات في الخطية، إذ رفض آخر فرصة للنعمة ولم يَقبَل المسيح مخلِّصًا وفاديًا، فانحدر إلى الأبدية الرهيبة غير مؤمِنٍ وغير مُخلَّص (اقرأ من فضلك لوقا23: 39-43).
وإلى وقتنا الحاضر لا زالت قوة الصليب هي هي، وفاعلية وكمال العمل الذي تمّ مرة واحدة هما هما بلا تغيير، والخلاص بالمسيح هو هو للجميع بلا فرق وبلا استثناء. وموقف النفس من الصليب هو الذي يقرِّر مصيرها الأبدي. فإما إيمان بالمسيح وبدمه المسفوك، وهذا هو طريق السعادة والراحة الأبدية، وإما رفض للصليب والمصلوب، وهذا هو طريق الهلاك الأبدي.
عزيزي: هلا تنظر الن بالإيمان إلى ذلك المجيد الموجود في السماء، والذي تعلَّق قديمًا على الصليب الأوسط. ففي وسعك أنت أيضًا أن تسمع منه كلمة الغفران والرجاء، عندئذٍ ستهتف من القلب، بنغمة عالية وصادقة:
في الصليب في الصليب في حياتي وكذا |
|
راحتي بل فخري لأبد الدهر |