"ليس أحمقَ من يُعطي ما لا يمكن أن يحتفظ به، حتى يربح ما لا يمكن أن
يخسره".
تلك هي المقولة الأشهر التي نُقلت عن يوميات بطل قصتنا اليوم: فيليب جيمس إليوت
Philip James Elliot الشهير بـ "جيم إليوت".
ولد في 8 أكتوبر 1927 في بورتلاند Portland ولاية أوريجن Oregon في أسرة تقية. كان أبوه مبشرًا متجولاً، وكان له 3 إخوة وأخوات. في سن صغيرة قَبِل الرب يسوع مخلِّصً.
تأثر كثيرًا من المُرسلين الذين كانوا يزورون بيتهم أو كان يقرأ عنهم.
في المدرسة الثانوية ظهرت إمكانيات جيم ومواهبه التي استخدمها جميعًا ليشارك الآخرين بالإنجيل. التحق بكلية ويتون Wheaton College سنة 1945. رغم أنه حاز على منحة دراسية لتفوقه لكنه كان يعمل أيضًا جزءًا من الوقت لتغطية باقي نفقات دراسته.
رتّب له الرب رفيق غرفة مؤمن هو بيت فليمنج Pete Fleming قرّرا معًا أن يكرِّسا
حياتهما للمسيح.
خلال دراسته الجامعية كان يخدم في المنطقة التي كان يدرس فيها في اجتماعات
الشباب، وفي إحدى العطلات ذهب في رحلة إرسالية للمكسيك، وهناك ابتدأ يستشعر بميل
خاص لأمريكا اللاتينية.
كان متوقِّد الذهن له هوايات ما بين الخُطَب والموسيقى والأدب خاصة الشعر، كان يحفظ المئات من الترانيم، كما كان رياضيً.
لكن أهم الكل أنه كان مسيحيًا قويًا يسعى لإرضاء الله وليس الناس.
تخرج إليوت سنة 1949 بعد دراسته اليونانية حائزًا مرتبة الشرف الأولى. عاد جيم إلى بيته بعد الدراسة الجامعية وركّز على درس الكتاب وعلاقته بالرب. عمل أعمالاً زمنية بسيطة، وكان يخدم الرب حيثما أتيحت له الفرصة.
وشارك في إنشاء خدمة إذاعية بعنوان "مسيرة الحق".
في 1950 قضى جيم وقتًا طويلاً مع مرسل قديم عمل مع هنود الكيتشوا Quechua في
إكوادور، ومنه عرف ظروف الخدمة هناك.
بدأ يشعر بدعوة إلى هناك. لقد حركته إحصائية تقول إنه هناك خادم لكل 50000 في
خارج بلاده مقابل خادم لكل 500 في أمريكا ، فكانت عبارته الشهيرة "لماذا يسمع البعض
الإنجيل مرتين بينما آخرون لم يسمعونه ولا مرة؟".
سعيًا وراء خطة الله لحياته أمضى جيم وقتًا طويلاً في صلوات حتى يعرفه. أخيرًا تأكد من دعوة الله له للحقل المرسلي في أمريكا الجنوبية.
فقرر ترك الحياة المريحة في أمريكا ليخدم في أحراش الإكوادور.
كتب إلى د. تيدمارش Tidmarsh أن يذهب إليه ليساعده في العمل في إكوادور. لكن سفره للإكوادور تأخر بسبب سفر تيدمارش للخارج. لما عاد تيدمارش، قرر جيم السفر، فأبحر مع رفيقه بيت فلمنج في 4 فبراير 1952 إلى الإكوادور.
في العاصمة كيتو Quito قضيا 6 أشهر مع أسرة مرسلة تعلموا فيها الأسبانية بدقة
وسرعة.
انتقل إلى شاندي Shandia حيث بدأ جيم وبت الاتصال بهنود الكتشو. ولحق بهم رفيق ثالث إد ماككلي Ed. McCully وزوجته. ثم انضم إليهم نيت سينت Nate Saint وزوجته وهو طيار. بنوا مركزًا للإرسالية مكوَّنًا من مركز طبي صغير ومساكن لهم ومهبط طائرة صغيرة؛ استغرق هذا عامًا، وبدأوا خدمتهم بين الهنود الناطقين بالكتشو.
على أن السيول هدمت معظم ما عملوا، فعادوا ورمموه.
في 8أكتوبر1953 تزوج جيم من إليزابث في حفل صغير بالإكوادور حضره زملاؤهم المرسلون ود. تيدمارش.
وقد عمل جيم وإليزابيث معًا في ترجمة العهد الجديد للغة هنود الكتشو.
لم يكن عزم جيم ورفقائه من مجيئهم الإكوادور هو زيارة قبائل الورني Waorani لكن هناك سمعوا عن تلك القبائل والتي كانوا يدعونها الأوكاز Aucas أي "المتوحشين"، وعرفوا عنهم أنهم قتلوا كل الغرباء الذين وطأت أقدامهم منطقتهم حتى هنود القبائل الأخرى. صلّوا طويلاً من أجلهم؛ وبناء على ذلك قرروا الوصول إليهم تحت شعار >الإنجيل لكل الخليقة<، مع أنهم كانوا على علم بالخطر. هنا أقتبس من مفكرة جيم إليوت قوله "إن كانت هذه طريقة الله فأنا على استعداد أن أموت من أجل خلاص الأوكاز ".
وكان قد انضم لهم رفيق خامس إلى مجموعة المرسلين روجر يوديريان Roger Youderian
وزوجته.
قام نيت بجولات استطلاعية فوق منطقة الأوكاز، حتى اكتشف أول كوخ لهم. بدأ المرسلون محاولة الاتصال بقبيلة الورني، وذلك بأن يحلّقوا بالطائرة فوق قريتهم ثم يدلّون سلة مليئة بالهدايا (ملابس وأدوات طهي وصور...) وهم يصيحون بكلمات ودية تعبِّر عن الصداقة بلغة الأوكاز عبر مكبِّر للصوت؛ حتى يبثوا الطمأنينة في قلوبهم. كان الأوكا يتجاوبون بتقديم هدايا مقابلة (قبعات من الريش، وببغاء حي...).
كانت الخطوة التالية أن يجدوا مكانًا لهبوط الطائرة، وجدوه أخيرًا بالقرب من نهر كيوراري Curaray. وبعد أيام صلاة حزم الرجال الخمسة أمتعتهم مقلعين إلى هناك، حيث هبطوا يوم الثلاثاء 3 يناير 1956. عملوا معسكرًا صغيرًا، ظلوا فيه مصلّين منتظرين لقاء الأوكاز.
كانوا على اتصال مستمر من خلال اللاسلكي بزوجاتهم، اللاتي شاركوهم الصلاة أيضًا من
بُعد.
يوم الجمعة اقترب منهم 3 من الأوكاز (امرأتين ورجل)، وبعد تردد طويل ومحاولات من المرسلين بإشعارهم بالسلام جاؤوا إلى معسكر المرسلين الذين قابلوهم بالترحاب. لم يمضِ وقتًا طويلاً حتى ساد الود والبهجة اللقاء، حتى أن الرجل طلب أن يركب الطائرة، فاصطحبه نيت في جولة فوق قريتهم، فأخذ في الصياح فرحًا مشيرًا إلى أهل قريته.
تشجع جيم ورفاقه بهذه البداية.
يوم الأحد، بينما نيت يطير بالطائرة فوق المنطقة، رأى مجموعة من الناس متجهين إلى الشاطئ. هتف في اللاسلكي مجموعة من 10 أشخاص قادمة. نتوقع زيارة الساعة 2.30. صلّوا من أجلنا، إنه اليوم المرتقب...
سنتصل مرة أخرى الساعة 4.30م .
كانت زوجاتهن يصلين من أجلهم ولما تأخروا عن موعد الاتصال انزعجوا وبدأوا الاتصالات للبحث عنهم. خرجت طائرات تابعة للجيشين الإكوادوري والأمريكي للبحث عنهم. أخيرًا أرسلت هليكوبتر إشارة تقول نلمح جثثُا على ضفة النهر. هناك وجدوا جثث 4 منهم ممزَّقة، تعرفوا عليهم من خلال أغراضهم.
كانت ساعة يد نيت المهشمة تشير إلى 3.12 عندما وجدوا جثته.
ما الذي حدث بالضبط؛ هذا ما عُرف بعد سنوات طويلة. دعني أخبرك بما حدث ثم ستعلم
كيف عُرف.
لقد أتت مجموعة الأوكاز إلى معسكر المرسلين، فقاموا مهللين لاستقبالهم؛ لكن لدهشتهم كان التصرف وحشي للغاية، لقد هاجموهم بالخناجر والرماح. "لماذا تقتلوننا؟ لقد أتينا إليكم للسلام". هذا ما لم يسمعه الأوكاز بل قاموا بتنفيذ مذبحتهم. لقد ظن الأوكاز أن المرسلين أتوا ليأكلونهم!!
بعد أيام قليلة تم دفن المرسلين في دقائق سريعة خوفًا من الأوكاز. علقت نساء
المرسلين فيما بعد بالقول "لقد أغلق الرب قلوبنا أمام الحزن المميت، وحمى عقولنا من
الجنون، وملأنا بالسلام العجيب".
علّق البعض بعد هذه الحادثة بالقول "الموت من أجل لا شيء؟ لماذا هذا الإتلاف؟". وأسفًا أن بعض هؤلاء كان من المسئولين الدينيين!
ما رأيك أنت يا عزيزي؟!
قبل أن تصدر حكمك دعني أكمل لك القصة!!
بعد سنوات قليلة التقت فتاة من الأوكاز، هاربة من قبيلتها، اسمها دايوما Dayuma براشيل سينت (أخت نيت)؛ عن طريقها قبلت هذه الفتاة المسيح مخلِّصًا لها، كما علّمت راشيل كل شيء عن الأوكاز. عادت الفتاة إلى قبيلتها، الذين كانوا يظنوا أن الغرباء قتلوها، وهناك أخبرتهم عن الحقيقة أن المرسلين كانوا برسالة سلام. وفي خريف 1958 عادت راشيل سينت ومعها إليزابيث إليوت (زوجة جيم) وطفلتهما فاليري (3سنوات) ليكملوا العمل الذي بدأه الرجال. وبينما كانت فاليري تلعب مع أولاد قتلة أبيها، تعرفت إليزابيث وراشيل على الستة قتلة أحبائهم، وإذ أظهروا لهم الغفران ربحوهم جميعًا للمسيح، مع المئات من الأوكاز. وكم كان المشهد مؤثِّرًا يوم وقفت إليزابيث إليوت وسط حشد كبير في مؤتمر عالمي وهي ممسكة بيد الرجل الذي قتل زوجها، وقد أصبح أحد العاملين الجادين في خدمة المسيح، ليعلنا معًا عظمة انتصار نعمة الله، وأن جهد جيم إليوت ورفقائه لم يذهب هباءً منثورًا!!
ولم تمض عدة سنوات حتى ظهرت أول نسخة من إنجيل مرقس بلغتهم بفضل جهود المرأتين
اللتين تممتا عمل جيم.
لقد أراد جيم إليوت إرادة الله، وقد انتهت بالموت، لكنه كموت حبة قمح ما زالت
تأتي بثمر؛ فموت المرسلين الخمسة ألهب قلوب الآلاف من الشباب المسيحيين المكرسين
للذهاب للعمل المرسلي (رصدت مجلة مسيحية Eternity magazine 600 مرسل تأثروا بهذه
القصة خلال 10 سنوات).
لقد أعطى جيم إليوت ما لا يمكن أن يحتفظ به، أي حياته، فربح ما لا يمكن أن يخسره
يوم يسمع من سيده القول العظيم «نعمّا أيها العبد الصالح والأمين» (متى25: 21). فهل كان أحمق؟!!
صديقي العزيز
هل أثارتك القصة؟ هل تحرّكت مشاعرك تجاه أولئك الذين لم تكن حياتهم ثمينة عندهم (أعمال20: 24)؟
دعني أسألك: ماذا أنت فاعل؟ هل أنت مستعد للتعب (ولست أقول الموت) من أجل عمل الله؟
هيا لنكف عن حياة الرخاوة وتدليل النفس ورغباته.
هيا لنضحي بما لا يمكن أن نحتفظ به، فهناك ما لنا أن نربحه ولن نخسره مطلقً.
قد لا تكون مدعوًا للعمل المُرسلي، لكن كل مؤمن مدعو لأن يبحث باجتهاد وبلا كلل عن مشيئة الله ويتممها مهما كان الثمن.
ومشيئة الله لحياتي هي الأفضل دائمً.
أخيرًا دعني أترك معك بعض أقوال جيم إليوت نقلاً عن مفكرته:
"إن هؤلاء المتذمرين من أبناء المسيحيين سيستيقظون يوم الدينونة ليواجهوا مصيرًا
أسواء من عبدة الأرواح في العالم المتخلِّف؛ لأنهم كان بين يديهم الكتاب المقدس
وضجروا منه".
"الله يعطي أفضل ما عنده لآولئك الذين يتركون الاختيار له".
"استرح على هذا الأمر: إنه عمل الله أن يقود، أن يأمر، يُلزِم، يرسل، يدعو، أو كيفما أسميته. وعملك أنت أن تطيع، وتتبع، وتتحرك، وتتجاوب.
أم ماذا سيكون عملك؟".
"يا الله.. أصلي أن توقد عيدان حياتي الجافة لتشتعل من أجلك... أنا لا أطلب حياة طويلة، لكن حياة تامة مثلك يارب يسوع"
"يا الله احفظني من حياة العقم بأن أكتفي بمجرد مظاهر خارجية، بل اعطني حياتك الفائضة بالثمر فأعلن رسالة المسيح"
"في ميدان العمل الروحي، وإن لم يصحّ هذا في أي ميدان آخر، نرى أن خُلق العامل هو الذي يقرِّر نوعية إنتاجه. فللشاعر أن يتحرّر خُلقيًّا، ومع هذا يستمر في كتابة الشعر الجيّد. كما أن الموسيقي قد يكون فاسقًّا، ويبقى على الرغم من هذا ينتج الموسيقى العذبة.
لكن هذا لا يصحّ على أي عمل يختصّ بالله".