أروي لكم هذه القصة على فم صاحبها:
كنت بعد في السابعة والعشرين من عمري، ولم يكن عرس زواجي قد مضى عليه أكثر من ثلاثة أشهر فقط، عندما بدأت حرب أكتوبر سنة 1973·
كان خبر بدء الحرب مضنيًا لوالديَّ وزوجتي وأقاربي، وكيف لا وأنا في مقتبل العمر والمستقبل أمامي يبدو مزدهرًا مشرقًا، فإذا بهم يجدونني في وجه الحرب الشديدة·
نعم لقد كنت من أولئك الجنود الذين عبروا القناة يوم 6 أكتوبر سنة 1973· كانت الحرب شديدة وقتلى الحرب كثيرين والموت حولنا من كل جانب، على يميننا ويسارنا، من فوقنا مِنَ الطائرات التي تُسقط علينا المواد الناسفة، ومن تحتنا مِنَ الألغام المدِّمرة· كانت أيام عصيبة بالحق لا يعرف هولها إلا الذين اجتازوها واختبروها·
في يوم 16/10/1973 أُصبت بشظية كبيرة في فخذي الأيمن·· صرخت من الألم وناديت زميل لي: "عيد·· عيد·· أَقبِل إليَّ بسرعة·· لقد أصابتني شظية في فخذي"· حاول عيد تهدئتي ورفع ساقي إلى أعلى، وربط ما فوق مكان الإصابة، ولكننا لم نتحرك لأن الضرب كان مكثّفًا جدًا؛ فقد كنّا في موقع استراتيجي بالنسبة للعدو·
بعد أن هدأ الضرب قليلاً نُقلت في سيارة نقل كبيرة إلى ضفة القناة الشرقية، وكان الدم يملأ السيارة ويتساقط منها ليرش الطريق الذي نعبره· كان عددنا يتجاوز العدد المسموح لهذا القارب الصغير·· وهكذا بدأ القارب في الغرق·
ملأ الذعر قلوبنا·· أ ننجو من اليابسة لنموت في الماء؟ أخذ كل منا خوذته ليفرغ بها الماء من القارب، ومع أننا جميعًا كنا في حالة إعياء وألم شديد، إلا أننا بذلنا كل جهدنا في تفريغ الماء حتى وصلنا إلى البَرّ·
ركبنا سيارة أخرى إلى مستشفى القصاصين· وهناك فوجئنا بالأعداد الهائلة من المصابين والذين كان معظمهم في حالة حرجة· وهنا كان لا بد للأطباء أن يقرِّروا أن يعود كل من كانت حالته أقل خطرًا إلى مؤخرة موقع كتيبته القديم قبل العبور، حيث أن المصابين ملأوا ساحات المستشفى والطرقات وحتى مساحات النجيل التي حول المستشفى· كشفوا علينا، ولحسن حظي أخبرني الطبيب أن الشظية قد أصابت الفخذ ودخلت من جهة وخرجت من الجهة الأخرى دون أن تحدث ضررًا بعصب أو شريان أو وريد· ولذا فقد كان عليّ أن أعود إلى كتيبتي·
شكرت الرب كثيرًا، فحتى وإن كان الألم غير محتمل، إلا أن الحالة مطمئنة·
استقليت سيارة الإسعاف مع كثير من زملائي الجنود الجرحى لنعود إلى كتائبنا· كان الألم شديدًا حتى إنني تجاوزت المكان الذي كنت أنوي النزول فيه للوصول إلى كتيبتي فهتفت بالسائق: "أرجوك توقف·· توقف بسرعة لقد تجاوزت الموقع"·
توقف السائق وبصعوبة بالغة نزلت من السيارة·
درت ببصري يمينًا وشمالاً·· ولكن، يا للمأساة·· لقد اكتشفت أنني نزلت في موقع قبل مقصدي بحوالي ثلاثة كيلومترات·
وصرخت في قلبي··· ثلاثة كيلومترات؟! وأنا لا أستطيع أن أخطو خطوة واحدة؟ آه·· ماذا أفعل؟ ·· كيف لم انتبه·· يا إلهي لماذا سمحت بهذا·· هل نسيتني يا رب تمامًا؟
ولأول مرة بعد انقضاء عهد الطفولة، وجدتني أبكي كطفل صغير·
وأنا في ألمي وحزني وانهياري، رفعت بصري، لأنظر السيارة التي لسوء حظي لم استكمل مشواري معها متحسرًا وحزينًا·
ماذا؟!! ما هذا؟! يا إلهي· غير ممكن·· مستحيل ما يحدث أمام عينيّ· لقد رأيت السيارة تحترق·· تشتعل فيها النيران·· تحتجب خلف دخان كثيف، ثم تختفي تمامًا، ويختفي راكبوها إلى الأبد· لقد أصابتها نيران القوات التي تسللت من الثغرة وأبادتها تمامًا·
وفي مكاني، وأنا ملقى على الأرض، رفعت وجهي إلى الرب وفاض قلبي بالشكر والعرفان، وعرفت معنى الآية الرائعة «كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله» (رومية8: 28)· وإذ شعرت بعناية الرب تحيط بي وخوافيه تظللني، امتلأت قوة غير عادية، فأخذت أمشي تارة وازحف تارة، وأنا أسبِّح وأصلي وأشكر، إلى أن وصلت إلى موقعي بسلام·
وهكذا، وبعد انقضاء ثلاثة وثلاثين عامًا، اعترف أن عناية الرب لم تتخلَّ عني لحظة واحدة سواء في الحرب أو في السلم، فالإله القدير لنا ملجأ والأذرع الأبدية من تحت - لإلهنا كل المجد·