عندما رأى يوحنا المعمدان الرب يسوع مقبلاً إليه قال: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يوحنا1: 29)، وهذا يُلخِّص الغرض الأساسي من التجسد الإلهي والذي عبّر عنه بولس الرسول في اختباره الشخصي بالقول في 1تيموثاوس1: 15 «صادقة هي الكلمة ومُستَحِقَّةٌ كلَّ قبولٍ: أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليُخلّص الخطاة»، وهذا أكّده أيضًا الرب يسوع بالقول «ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (متى20: 28).
ولكن إن كان هذا هو الغرض الأساسي للتجسد، فعلينا ألا ننسى جانبًا آخر وهام في مشهد التجسد؛ وهو أن المسيح يسوع عاش في أرضنا حياة إنسانية كاملة، منذ أن حُبِل به في بطن العذراء مريم وحتى موته ودفنه في القبر. وكثيرًا ما تركِّز كلمة الله على إبراز حياته الإنسانية. وهنا يأتي السؤال: لماذا؟
والإجابة بكل بساطة، أن الله يريد أن يقدِّم للبشرية النموذج الكامل والرائع للحياة الإنسانية الصحيحة، كما أرادها هو منذ البداية؛ لذلك أعلن مسرّته الكاملة بوضوح حينما صار صوت من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ» (متى3: 17).
لقد مرَّ الرب يسوع - له المجد - كإنسان في أرضنا، في المراحل العمرية الأساسية التي نمر بها، ليضع أمامنا النموذج والمثال الصحيح للحياة البشرية في مراحلها المختلفة. ولهذا نقرأ ما كتبه كاتب رسالة العبرانيين «من ثَمَّ كان ينبغي أن يُشبه إخوته في كل شيء» (عبرانيين2: 17)، وكذلك «ناظرين إلى... يسوع» (عبرانيين12: 2). كما يكتب بطرس الرسول «تاركًا لنا مثالاً لكي تَتَّبِعوا خطواته» (1بطرس2: 21). وكما قال هو نفسه- له المجد- في متى11: 29 «تعلّموا مني».
إننا بحق سوف نفقد الكثير، والكثير جدًا، لو اكتفينا فقط بتأملنا في الرب يسوع كالفادي والمُخلّص على الصليب. لذلك دعونا معًا نذهب في جولة تفصيلية نتبع فيها خطوات هذا السيد العظيم في مراحل حياته على الأرض، إنسانًا عاش بيننا: طفلاً.. ثم صبيًا.. ثم رجلاً.. ثم خادمًا.
دعونا نثبِّت النظر عليه، ونتعلم منه؛ وعندئذ سنجد راحة لنفوسنا.
طفل مضجع في مذود لوقا2: 12
عندما جاء ملء الزمان المحدَّد من قِبَل الله، ذهب الملاك جبرائيل إلى مدينة الناصرة التي في الجليل، ليبشِّر العذراء مريم بأن الروح القدس سيحلّ عليها، وأن قوة العلي ستظلّلها، وأنها ستحبل وتلد ابنًا وتسميه يسوع، وهو بالحقيقة ابن الله.
وعندما اقترب وقت ولادة يسوع حدث اكتتاب (أي تعداد سكاني) في البلاد، وكان على العذراء مريم ويوسف أن يذهبا إلى بيت لحم، مدينة داود، لكي يكتتبا هناك. وهناك تمت أيامها لتلد. فتّشا على مكان للولادة فلم يجدا، وكان البديل الوحيد المتوفر هو ”مذود“، أي مكان مبيت الأبقار، كما يسجِّل لنا ذلك لوقا البشير «فولدت ابنها البكر وقمَّطَته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضِعٌ في المنزل» (لوقا2: 7). يا له من مشهد غريب! من هو هذا المولود في مذود؟! إنه الذي بشَّرت الملائكة بولادته، ثم ترنَّمت مسبِّحة: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المَسرّةُ» (لوقا2: 8-14). ثم جاء الرعاة ليروه، ومجَّدوا الله وسبحوه على ما رأوا في المذود. لقد كان ممكنًا أن يولد في قصر الملك، كما ظن المجوس الذين أتوا من المشرق مفتشين على هذا الملك العظيم (متى2)، لكنه اختار أن يفتقر مع أنه غني.
لماذا؟! ليرتبط بالإنسان، ويصل إليه أيًّا كان وضعه، وفي أي مستوى يعيش فيه. لم يشغله أو يهمه كثيرًا أين وُلد، بل كان يهمه أن يتمِّم مشيئة أبيه الذي أرسله.
والآن ماذا عنك أنت؟! هل سُئلت مرة عن المكان الذي ولدت فيه، فأصابك الخجل من ذكره، وحاولت الهروب من الاجابة؟ هل استخدم عدو البشرية هذا الشيء كحجر عثرة في حياتك، ليعطِّل انطلاقك ونجاحك في حياتك الزمنية أو الروحية؟
لماذا لا تحوِّل نظرك عن هذا الأمر، وتتذكَّر سيدك العظيم الذي وُلد في أفقر وأقل مكان من وجهة النظر البشرية، لكن هذا لم يؤثر على انطلاقه وتتميم الخطة الإلهية العظيمة لمجيئه إلى أرضنا؟
الناصرة حيث كان قد تربى: لوقا4: 16
بعد أن وُلد الطفل يسوع في مذود بيت لحم، انتقل، مع مريم أمه ويوسف النجار، إلى مدينة الناصرة التي في الجليل، مدينتهم الأصلية التي كانا يعيشان فيها. وكانت هذه المدينة من المدن المُحتقَرة في المقاييس الاجتماعية في ذلك الوقت، وكان يوسف، الذي يُنظر إليه أنه الأب البشري له، يعمل نجارًا. لذلك عُرف عن يسوع أنه «ابن النجار» (متى13: 55).
وعندما نتأمل بتدقيق، نستطيع أن نستنتج أن الطفل يسوع عاش في مستوى اجتماعي ومادي منخفض. فعندما أتى وقت ختانه ثم تقديمه للرب، بحسب الناموس، نقرأ «ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سُمِّيَ يسوع... صعدوا به إلى أورشليم ليقدّموه للرب كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يُدعى قدوسًا للرب. ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب: زوج يمام أو فرخي حمام» (لوقا2: 21-24). وعندما نرجع إلى ناموس الرب، بخصوص هذا الأمر، نقرأ في لاويين12: 1-8 «وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته... ومتى كملت أيام تطهيرها لأجل ابن او ابنة، تأتي بخروف حولي محرقة وفرخ حمامة أو يمامة ذبيحة خطية إلى باب خيمة الاجتماع... وإن لم تنل يدها (أي كانت فقيرة أو إمكانياتها المادية قليلة) كفاية لشاة تأخذ يمامتين أو فرخي حمام، الواحد محرقة والآخر ذبيحة خطية».
هذا كان وضع سيدنا العظيم عندما جاء إلى أرضنا. فماذا عنك أنت؟ هل ينتابك الأنين أو التذمّر لكونك في عائلة محدودة الدخل أو فقيرة ماديًا بالمقاييس الاجتماعية العالمية؟ هل يهاجمك الشعور بعدم الاكتفاء أو الحرمان عندما تختلط بالمحيطين بك؟
حوِّل نظرك عن الزمان الحاضر، واعلم أنه «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟».
حوِّل نظرك إلى هذا السيد العظيم، الذي افتقر وهو غني، لكي نستغني نحن بفقره؛ وبعدها سنختبر عمليًا ما اختبره سليمان قديمًا أن «الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس».